لا أعرف ما الذى أصاب البرج الباقى من دماغى – بعد ان انهارات بقية الابراج فى زلزال قرار السفر الى الهند من الأساس – لاتخذ ذلك القرار الأرعن بالخروج فى جولة سياحية حول نيو دلهى بدون مرشد
كنت قد أستيقظت فى حوالى السابعة صباحا ... تسألنى لم؟ أقول لك ليس انشكاحاً بالرحلة السعيدة ولأنى لا أكاد أطيق الانتظار للاستمتاع بيوم مشمس جميل فى العاصمة الهندية الساحرة ... ولكن لأن النومة غير مريحة إطلاقاً ... هناك رائحة عجيبة تسيطر على المكان كله ... ليس على الحجرة فقط بل أكاد أقسم انها تسيطر على المدينة كلها ان لم يكن شبه القارة الهندية بأكملها ... وهى رائحة لا أستطيع أن أقول انها جيدة كما لا أستطيع ان أجزم انها سيئة .... أنها فقط رائحة ... وهذا يكفى لجعلها غير مريحة بالمرة ... فلم أعرف بلداً فى حياتى ولاحتى مصر أم الدنيا للهواء فيها رائحة – على الأقل ليس حتى مساء يوم الرابع عشر من نوفمبر حين غادرتها للمرة الأخيرة
المهم ... استيقظت فوجدت أمى قد سبقتنى ... تناولت فرشاة أسنانى والصابونة وزجاجة الديتول – دى أهم وأول حاجة لازم تحطها فى شنطة سفرك لو ناوى تروح الهند بس خليك ناصح وهات زجاجة لتر لأن الزجاجة الصغيرة التى كانت معنا لم تكف أسبوع مع استخدامها ليس أقل من 20 مرة يومياً من أول دخول الحمام وحتى بعد ملامسة أكرة باب الغرفة – ولم أكد أهم بدخول الحمام حتى رن جرس تليفون الغرفة ... يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم! مين بيبيع لبن هنا ع الصبح؟ ... رفعت السماعة فآتانى صوت موظف الاستقبال الذى لم أفهم منه كلمة حتى سمعت صوت "آرتى" تخبرنى انها فى طريقها الى الغرفة ... غرفة؟ ... يا نهاركوا ... غرفة مين؟؟ ايه الناس دى؟ أنا معلوماتى عن الهنود انهم اجتماعيين بزيادة ... لكن الساعة 7 الصبح؟؟!! يا نهارنا أزرق! دحنا باين علينا هنشوف أيااام! جريت على الحمام ولم تمهلنى 3 دقائق حتى كانت داخل الغرفة وأمى تنادينى ... شىء لطيف جداً ان واحدة متعرفهاش من أساسه وتانى مرة تشوفك تكون بالبيجاما وشعرك منكوش وفرشاة السنان فى ايديك اليمين والمعجون فى ايديك الشمال والفوطة على كتفك!!! الحلوة كانت جاية فى الساعة دى ليه بققققققى؟؟ كانت فى طريقها لركوب سيارة الشركة وعدت علينا لتعطينى موبايل والدتها ليكون تحت تصرفنا الى ان أشترى خط جديد (فاتورة فرنسا كانت قد تعدت الألف جنيه وحدها مع استخدامى لخاصية التجوال اللعينة فقررت شراء خط محلى أرخص خصوصاً ان معظم مكالماتى ستكون مع هنود ... وبالمناسبة أتضح ان هذا كان هو القرار الصائب الوحيد الذى اتخذته طوال الرحلة وما قبلها وما بعدها حتى) ... والله البنت طلعت ذوق ذوق ذوق ... معرفتش أقولها ايه ... بس برضو الساعة 7 وانا بالبيجاما؟ّّ!!!
بعد ما لبست وقمت بترتيب الحجرة نزلنا الى الشارع للمرة الأولى فى هذا الوقت من الصباح ... كانت الساعة تقترب من التاسعة والجو شبه ضبابى! ... أردنا عبور الشارع الى المول المقابل وعندها أكتشفت ان نظام المرور العكسى صعب المتابعة ... فالنظام هنا شمال ... السيارات نظام انجليزى حيث يجلس السائق أمام عجلة القيادة على الجانب الأيمن من السيارة ... وبالتالى فنظام المرور ايضا معكوس ... فصرت دائماً أنظر فى الاتجاه المعاكس بطريقة عفوية ... وهو خطأ لو تعلمون عظيم ... فلا أذكر كم مرة كادت دراجة أو ريكشة أو سيارة ان تصدمنى فى هذا اليوم وحده لولا صرخات أمى التى تخاف من عبور الشارع أمام بيتنا حتى فى مصر! الا اننا عبرنا الشارع بنجاح وبلا خسائر لا فى الصفوف الهندية ولا فى الصفوف المصرية ولله الحمد ... فقط لنكتشف ان المول وكل ما جاوره من محلات وحتى ماكدونلدز مغلقين ... وكانت هذه أول مرة نكتشف فيها ان الهند بلد أهل الكهف ... لا تبدأ الحياة العامة فيها قبل الحادية عشر – باستثناء الشركات الخاصة . أعتقد انه حتى المكاتب الحكومية لا تبدأ العمل قبل العاشرة ... ملحوظة صغيرة : مع سيرى فى ذلك الشارع فى ذلك الصباح ... شعرت اننى أجلس فى تلك السينما بوسط البلد بجوار أبى وأشاهد أحد أفلام أميتاب باتشان فى منتصف الثمانينات ... كأن مصمم أزياء الفيلم قد انتقل فجأة الى هذه اللحظة فى الهند فألبس الناس تلك البنطلونات العجيبة التى كان يرتديها نور الشريف وعادل أمام فى أفلام المقاولات ... عارفينها البنطلونات المستقيمة الضيقة ذات الجيوب الصغيرة التى تبدو دائماً مفتوحة على مصراعيها؟؟ انتهى
عدنا الى الأوتيل بعد ان فشلنا فى الحصول على طعام للافطار ولم يكن أمامنا سوى طلب طعام من الأوتيل ... بعد 10 دقائق من التفاهم مع خادم الغرف أنزل الله عليه الالهام وفهم أخيراً أنى أريد 2 شاى و2 نان فى الغرفة ... والنان هو أحد أنواع الخبز المتعددة فى الهند – كان من الصعب ان أطلب أى شىء آخر من القائمة العجيبة التى امتلأت بأسماء هندية لا حصر لها ... ميزت منها فقط أنواع الخبز لأنى أكلته من قبل فى مطعم هندى بالقاهرة
صعدنا الى الغرفة وكان ان اتخذت القرار الأرعن ... طلبت سيارة أجرة عن طريق رقم أعتطه لى "آرتى" وهو مثل تاكسى العاصمة ويتم تأجيره لمدة ثمانى ساعات لمسافة ثمانين كيلو ... وكان ذلك سيكلفنى 600 روبية ... أى أقل من سبعين جنيه مصرى ... لا بأس ... بعدها بقليل جاء الخادم بصينية عليها فنجانين وترمس من الشاى ... ما أن صببت بعضه حتى وجدت لونه لون الشاى باللبن ... وكان هذا هو الدرس الأول فى طلب الأطعمة فى الهند ... اذا اردت شاى مصرى فيجب ان تحدد لهم "بلاك تى" أى شاى أسود ... لأن ما يعرف عندهم باسم "تى" هو شاى بلبن ... بل انهم يستخدمون كلمة "شاى" العربية نفسها لوصف الشاى باللبن ايضا ... طلبت من الخادم تغييره فعاد بعدها بفترة بالشاى الصحيح ... ويا ليته ما عاد ... كان أسوأ "بلاك تى" شربته فى حياتى ... وصارت أمى تقول "لا يمكن نكون فى الهند لو هو ده الشاى الهندى اللى الناس كلها بتحلف بيه!" ... لم يكن أمامنا اختيار أفضل على كل حال ... ثم ان رجل الاستقبال هاتفنى منبئاً بوصول التاكسى وأعطانى رقمه
نزلنا لنجد سيارة فضية صغيرة من ماركة "تاتا" اياها تقف أمام مدخل الفندق وبجوارها شخص ضئيل الحجم رث الثياب ملزق الشعر يتحدث فى الموبايل معطياً ايانا ظهره ... تمنيت من الله الا يكون هذا هو السائق الموعود الا ان دعوتى لم تكد تبلغ طبقة التلوث المخيمة فوق المدينة حتى استدار الرجل وفتح لنا باب السيارة
فقط عندما ظننت ان رائحة المدينة هى آخر ما ستتحفنى به الأقدار فى هذه الرحلة! ... كانت رائحة التاكسى تبدو وكانه – السائق - كان يباركها بدهنها بمسك روث الأبقار كل صباح ان كان هناك شىء من هذا القبيل – وهو شىء ليس ببعيد عن هؤلاء القوم بالمناسبة – غير ان شكل الرجل نفسه كان ينبئنى بأنه لم يمس الماء منذ شهور أن لم يكن منذ سنوات ... وما ان جلسنا حتى سألنا الى اين نريد الذهاب فأعطيته ورقة كان "سانجاى" قد كتب لى فيها كل الأماكن التى تستحق الزيارة فى دلهى فأشرت له على بعضها فهز رأسه واستعد للانطلاق ثم سأل "ايسى مادام؟" ... تسألت "وات؟" ...فكرر "آيسى مادام؟" ... ففتحت فمى ببلاهة وقلت له انى لا أفهم فأشاح بوجهه فاقداً الأمل ... ثم تنبهت الى انه أشار الى فتحة التكييف فى التابلوه أمامه فقلت مع مط وتطويل من فهم أخيراً "أيه سيييى" ... قصده ع التكييييييييف! يادى الليلة اللى مش فايته!! احنا لسه فى حرفين ومش فاهمة من #$##$%^ حاجة!
ياه ه ه ! أول مرة ألاحظ - فى ضوء الصباح – ان المدينة حقاً واسعة جداً ... هى مقسمة الى أربعة أجزاء ... شرق دلهى وغربها ثم شمالها ثم جنوبها ..ثم ان المدينة بأكملها عبارة عن حزام يحيط بالمدينة القديمة ... كنا نسكن فى منطقة "راجورى جاردن" فى غرب دلهى ... وقطعنا مسافة طويلة تخطت النصف ساعة حتى وصلنا الى محطتنا الأولى ... مررنا خلالها بالعديد من الطرق الفرعية والرئيسية ... لم تتغير انطباعات الليلة السابقة عن شوارع المدينة كثيراً ... باستثناء ان الشوارع القريبة من قصور الوزراء والأماكن الحكومية كانت أكثر اتساعاً وانتظاماً ... مررنا ايضا على فندق كبير اسمه "تاج بالاس" وهو فندق عظيم الحجم محاط بحديقة كبيرة يفصلها عن الشارع الرئيسى سور حديدى تستطيع من خلاله رؤية المبنى الذى يأخذ امتداد طولى على شكل قوسى ... سألت السائق فقال بلغة كسيحة ان أجر الليلة فى ذلك الفندق يتخطى الثمانية آلاف روبية ... أى أكثر من ألف جنيه مصرى! ... ما مشكلة الفنادق فى الهند؟ الغرفة فى ذلك الفندق الحقير الثلاثة نجوم تكلفنا 200 جنيه مصرى فى الليلة والفنادق الآخرى التى لا تتعدى 3 نجوم ايضاً تتعدى ال400 جنيه! أى ما يمكن ان تقيم به فى أجدعها منجع سياحى بالبحر الأحمر ... وشتان ما بين المكانين!
مررنا فى الطريق ايضا على بعض القصور الصغيرة المحاطة بحدائق متوسطة الاتساع تطل أسوارها على الطريق الرئيسى ومعظمها بيوت الوزراء أو مؤسسات تابعة للححكومة ومنها منزل "سونيا غاندى" رئيسة الوزراء السابقة حتى انحرف بنا السائق أخيراً إلى شارع رئيسى عريض و"نظيف" – وضع تحت كلمة "نظيف" هذه سبعين خطاً لأنها كلمة عزيزة ونادرة جداً فى هذا البلد – وتوقف عمودياً على الرصيف بين صف من السيارات معظمها أجرة وأشار لنا إلى الجهة المقابلة من الشارع ... نظرت فرأيت من بعيد بناء حجرى ضخم على شكل بوابة تقف وحيدة لا يحيطها شىء ... عرفت انها "انديا جيت" أو بوابة الهند التى بنيت تخليداً لذكرى قتلى حرب الأفغان والحرب العالمية الأولى من أبناء الهند ... وهى ليست بوابة بالظبط كما يوحى اسمها ... بل هى بالأحرى مشروع فاشل لتقليد قوس النصر الباريسى ... وهيهات ان استطيع مجرد الإشارة إلى المقارنة بين القوس ببياضه الشاهق والنحوتات البارزة على جميع جوانبه من الداخل والخارج وأسماء قتلى الثورة الفرنسية واللوحة البرونزية التى تحمل تاريخ إعلان الجمهورية الفرنسية والتى تتوسط الأرض بين جداريه أمام موقد شعلة النار بنقوشه البرونزية وبين هذا البناء الأصم من الحجارى البنية المغبرة التى لا تحمل من النقوش سوى كلمة "إنديا" محفورة بحروف لاتينية على قمتها ... بل أجرؤ على القول بأن قوس النصر الهرمى عندنا فى مدينة نصر بالقاهرة يتمتع بمنظور جمالى أرقى بمراحل من هذه البوابة
تجولنا قليلاً فى المنطقة وكان هناك عدد قليل من الأجانب وعدد غفير من الهنود ... فتجد الشاب من هؤلاء يضع على شعره نصف علبة من الفازلين ويصطحب فتاة مغطاة من قمة رأسها وحتى أخمص قدميها بأعجب تشكيلة من الألوان النارية الاستفزازية التى يمكنك تخيلها من أول السارى الملفوف حولها والسروال الضيق تحته إلى الأساور المتعددة التى تغطى ذراعيها من كفيها إلى مرفقيها فى لوحة يعجز أجدعها فنان سريال عن الاتيان بمثل ألونها ... فيجلس هذان يتهامسان بجوار البوابة الضخمة فى مشهد أزلى منذ أيام اللقاء الخالد بين عبد الحليم حافظ وفاتن حمامة بجنينة الأسماك فى فيلم موعد مع القدر وحتى سور المريلاند بمصر الجديدة وكوبرى قصر النيل ساعة العصارى فى حاضرنا الجميل
بعد التقاط بعض الصور الفوتوغرافية – بالمناسبة الصور دى تم التقاطها حوالى الساعة 11 صباحاً وأحب أوضح هنا ان الجو مش مغيم ولا حاجة ... ده التلوث يا عزيزى! – عبرنا الشارع مرة أخرى إلى حيث التاكسى شنيع الرائحة ... أحب ان أذكر هنا انه فى ذلك الشارع الرئيسى وحيث يقف عسكرى المرور بزيه البنى وغطاء رأسه الأحمر يلتزم المواطنون جميعاً باشارة المرور وخطوط عبور المشاة ... وهو لشىء مثير للحزن ان ترى كيف ان هذا المستوى من الانحدار العام فى النظافة فى هذه البلد النامية يقابله هذا الالتزام الرائع بقواعد المرور – على الأقل فى الشوارع الرئيسية – بالمقارنة مع بلدى الحبيب
عدنا إلى السيارة فى الشارع الكبير – "النظيف" – الذى بالمناسبة تقام فيه عروض عسكرية هائلة أثناء الاحتفالات الوطنية طبقاً لما قرأت ورأيت من صور على الانترنت فيما بعد وهو يعرف باسم "راج-باث" أى "طريق الملك" ويمتد من قصر الرئاسة حيث مقر رئيس الجمهورية مروراً ببوابة الهند ووصولاً إلى الاستاد الوطنى
انطلق بنا التاكسى هذه المرة إلى شوارع اكثر إزدحاماً وشعبية حتى وصلنا إلى شارع ذو اتجاهين كان على يمينه من بعيد سور طويل لقلعة حمراء هائلة المساحة ... تعرفت عليها انها "القلعة الحمراء" – رد فورت – يبدو حسب علمى انه لا تكاد تخلو مدينة من مدن الهند من أحد تلك القلاع الضخمة التى ترجع إلى عصور مختلفة ... أما على اليسار من هذا الطريق وحيث انحرف بنا السائق فكان شارع شديد الازدحام تسير فيه السيارة بصعوبة بالغة من كثرة السائرين فيه ... دخل بنا إلى ساحة انتظار واسعة فركن السيارة وتلرجل منها ماشار لنا ان نركب "ركشة" حيث كان هناك عدد لا بأس به من سائقى تلك العربات يقفون فى انتظار "الزبائن" ليصعدوا بهم إلى حيث "جامع مسجد" حيث كانت هذه هى أيسر وسيلة لزيارة المكان نظراً لصعوبة دخول السيارات الى هناك ... وهكذا انحشرت أنا وأمى فى المساحة الضيقة من العربة العالية المتصلة بدراجة السائق المسكين نحيل الجسد الذى آخذ يحرك البدال بصعوبة طوال الطريق المتصاعد الذى استغرق حوالى 5 دقائق شق خلالها وسط جحافل البشر والدراجات الصاعدة معنا والقادمة عكسنا الى ومن تلك الربوة العالية التى يقع عليها "جامع مسجد" وهو أكبر مسجد فى دلهى قلت لأمى بعد ما رأيت من معاناة السائق المسكين "شكل السواق ده قرب ينزل ويسجد لنا ... أكيد بدأ يشك دلوقتى أننا بقرتين حلوب من اللى بيعبدونهم مش بنى آدمين!"
أخيراً بدأنا نرى سور الجامع المرتفع من بين ثغرات أجساد قوى الشعب المتلاحم أمامنا ... نزلنا من الركشة حيث توقف بنا السائق على بعد خطوات من درجات المسجد الحجرية وأكدت عليه ان ينتظرنا ... جامع كبير هو من الطوب الأحمر المزخرف بأقواس بيضاء وقباب مستديرة تشبه أكثر ما تشبة أقبية قصر الكرملين فى روسيا ... وله ثلاثة مداخل من الشمال والشرق والجنوب مسورة بأبواب حديدية خضراء تحمل أسامى عربية مكتوبة باللغتين العربية والانجليزية مثل "باب عبد الغفور" و "باب عبد الله" إلخ
وهذا المسجد اسمه الأصلى هو "مسجد جاهان نوما" – أى المسجد المطل على العالم – نسبة إلى الحاكم المغولى شاه جاهان صاحب تاج محل الشهير
على الدرجات الكثيرة الصاعدة تجاورنا مع العديد من الأجانب ذوى البشرات البيضاء المحمرة ... إلا ان منظرنا نحن كان أكثر عجباُ لهؤلاء الهنود – لاحظ المفارقة ... فنحن بحجابنا الأغراب داخل مسجد إسلامى ... سبحان الله!
كان هناك لافتة على الباب ان استخدام الكاميرا ممنوع إلا بتقطع تذكرة تبلغ 200 روبية / حوالى 30 جنيه مصرى ... وهو شىء عجيب جداً لم أره فى أى مسجد من قبل ... حتى فى مصر حيث تتفنن وزارة السياحة فى تنفيض جيوب السائحين لكن من الواضح الجلى ان الأخوة الهنود يتفوقون فى هذه الأمور بلا منازع! ... خلعنا الأحذية بجوار الباب ثم دلفنا إلى صحن المسجد المفتوح الذى يتوسطه حوض كبير مربع من المياه التى لم أر شىء يدل على انها متجددة وعند مرورى بجوار هذا الحوض لم يفزعنى مشهد المياه الراكدة كمياه البرك وما يغطى سطحها من فضالات الحمام والعصافير المنتشرة بصورة مخيفة فى سماء المكان بقدر ما هالنى مرأى ذلك الهندى الشاب الذى كان قد مد يده فى هذه الماء ليغتسل – فيما بدا لى كالمتوضىء – مبعداً بيده الفضالات فى بساطة شديدة يحسد عليها – الله يقرفك يا بعيد!
وللمسجد ايوان واحد مفروش بالسجاجيد للصلاة يقع إلى الجهة الشرقية من الباب ... وهو إيوان طولى يتسع عرضه لبضعة صفوف من المصلين فقط ويتوسط جداره قوس القبلة ... لم أرى بالطبع مكاناً لمصلى سيدات – وعرفت فيما بعد ان نساء المسلمين هناك لا يصلون فى المساجد – فاتخذنا مكاناً أبعد ما يكون عن العيون وأستترنا بجدار فصلينا ركعتين تحية للمسجد ثم توجهنا إلى بوابة الخروج
عند مكان الأحذية كان هناك رجل رث الثياب كالح الوجه يقف كالمشرف العام على ارتداء الأحذية والمعنى طبعاً لا يخفى على من زار مساجد مصر خاصة تلك الخاصة بالقاهرة القديمة ... هو ببساطة يتوقع مالاً نظير حراسته الجليلة للأحذية ... وقف يرمقنى بنظرات ترقب اثارت استيائى ... ولأنى لم أتوعد بعد على شكل العملات الهندية والتى تحمل كلها – بالمناسبة – صورة غاندى – كلها بلا استثناء – ولا تختلف شكلاً سوى فى الحجم والألوان فقد استغرقت بعض الوقت ... وما ان انتدت يدى لتلمس ورقة من فئة الروبيات الخمس – ما يقل عن الجنيه ببضعة قروش – حتى فوجئت بالرجل يرغو ويزبد ويلوح بيديه بمعنى "مش عايز من خلقتك حاجة" متمتماً ببعض الكلمات الهندية التى حتماً تؤدى نفس المعنى
هممت بأن أضع النقود فى جيبى وان أقول له بنفس الحدة ما معناه "أقرع ونزهى" الا أن أمى قالت لى "معلش أديله عشرة" ... ... نقدته اياها بغل فخطفها وأدار ظهره لى منصرفاً بغضب ... سبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله! بالمناسبة ... الا يذكركم هذا الرجل بأحد؟ ربما سائس من عينة "وضع اليد" الذى يظهر لك فجأة من تحت الأرض كلما ههمت بركوب سيارتك فى أى مكان فى القاهرة قائلاً بابتسامته اللزجة المتزلفة "كل سنة وأنت طيب يا باشا" وترد أنت بذكاء "ليه؟ هو النهاردة عيد ميلادى وأنا معرفش واللا ايه؟" ... أو ربما يذكرك بعامل النظافة المتلكع على كوبر أكتوبر الذى يقف بسماجة متنطعاً يحرك المقشة ببطء لا تتحمله لو رأته سلحفاة بنت سلحفاة ثم ينظر فى عينيك نظرة منكسرة مباشرة ويرفع يده بجوار جبهته فى تحية عسكرية قائلاً الجملة الشهيرة "كل سنة وأنت طيب يا باشا" ... فتقول فى نفسك "ياه! دى الحكومة دى واصلة بجد ومعدية البراميل ... مبلغة كل الناس فى البلد ان النهاردة عيد ميلادى عشان يحتفلوا بيا ... والله فيهم الخير ... ولو أنى مش فاكر ان النهاردة عيد ميلادى! غريبة!" ... وهكذا حتى لتشك فعلاً فى التاريخ الصحيح لعيد ميلادك
نزلنا من الجامع فوجدت سائق الركشة يشير إلىّ من بعيد ... وبدأت رحلة الأبقار المحمولة عائدة إلى الجراج ... فى الطريق وصلتنى مكالمة من "فينيش" يسأل عن يومى فأخبرته بانجازاتنا حتى الآن ثم سألته عن الأجر المناسب لسائق الركشة فأخبرنى ان 15 روبية تكفى ... فما ان وصلنا حتى أخرجت النقود ومددت يدى بها للسائق فركبه مليون عفريت وأخذ يقرضنا قصيدة شتائم هندية لم نفهم منها حرفاً بالطبع لكن سائق التاكسى الذى كنا نقف معه الآن قال انه يريد 50 روبية ... عدت ل"فينيش" الذى كان معى على الخط فسألته فقال لى أن أعطيه 20 روبية لا أكثر وان رفض ان أتركه وأمشى ... التفت فوجدته قد رحل غاضبا بالفعل فهممت بالرحيل لكن أمى ألحت علىّ أن أراضيه قائلة "حرام عليكى ده جر البقرتين الحلوب على قلبه طالع نازل" ... فناديته وممدت يدى له بال20 روبيه فأخذها على مضض ورحل متمتماً ... وكانت هذه هى أول ملاحظات لى عن معاملة السياح فى الهند ... كما كانت أول مرة ألاحظ انها نفس الطريقة التى يعامل بها السياح عتدنا فى مصر من استغلال ونصب واحتيال وكأن السائح قد كتب على جبهته "حمار بيفقس دولارات ... أستغلله" أو شىء من هذا القبيل