Friday, July 25, 2008

المدينة الوردية - الجزء الأول - الهند 5


جاء "سنجاى" متأخراً عن موعده نصف ساعة كاملة ... كنا قد لملمنا خلالها كل متاعنا وجلسنا فى صمت ننتظره حسب الموعد المتفق عليه بالأمس وهو الخامسة فجراً لبدأ الرحلة الى مدينة "جيبور" التى تقع على بعد 300 كم من دلهى
جاء وحده فأخذ حقائبنا ووضعها فى السيارة وانطلق بنا فى شوارع الهند النائمة حتى وصلنا بعد دقائق معدودة الى مبنى قصير من ثلاثة طوابق فتوقف أمامه ونزل فأخذ حقائبنا حيث كنا قد اتفقنا على تركهم بمنزله حتى نعود من رحلتنا ... دقائق معدودة وعاد وورائة فتاتين واحدة فى الثامنة من عمرها والأخرى فى السادسة تقريبا يرتدين ملابس المدرسة الكحلية ويحملون الحقائب المدرسية على ظهورهم – خيل الى انهم فى مدرسة حافظ ابراهيم بشبرا مع الزى والحمل الثقيل الذى ينوءون تحته... يا ترى هل ترك د. وزارة التربية والتعليم فى مصر ليتولاها هنا؟ - ... عرفنا "سنجاى" بهم ان الأولى هى ابنته الكبرى "سانيا" والصغرى هى"بارى" فوقفت اتبادل معم أطراف الحديث وهم فى انتظار أتوبيس المدرسة حتى جاءت "مهرو" أخيراً فى نفس التوقيت تقريباً الذى وصل فيه الأتوبيس فودعتنا الفتاتين بروح محبة وهم يدعوننى "دى-دى" وهو لقب يطلق على الأخت الكبرى ... وركب كل فى طريقه

انطلقنا بالسيارة وكانت الحياة قد بدأت تدب فى الشوارع مع تخطى الساعة السادسة ... لأول مرة أرى تلك المدينة بدون الازدحام الشديد الذى ينتشر فى كل ركن فيها يومياً ... قال "سنجاى" انه سيمر على بيت أخته فى "هاريانا" فى لطريق ليعطيها شىء ما ... بمجرد تخطينا الطريق السريع الرابط بين دلهى وهاريانا بدأت أتعرف على ملامح الولاية التى زرتها بالأمس فقط ... عير انه بدلاً من اتجاهنا الى "جورجون" حيث مقر الشركة دلفنا الى منطقة سكنية راقية تشبه فى تخطيتها ومبانيها القصيرة البيضاء أحياء التجمع الخامس وبقية المدن الجديدة المحيطة بالقاهرة الكبري ... طبعاً أنا وأمى كنا نفرك أعيننا بقوة رغبة فى الافاقة من هذا الحلم ... كانت هذه "أنظف" مبانى رأتها أعيننا منذ أربعة أيام كاملين .. حتى أنها سألت "سنجاى" ان كان يوجد فنادق هنا أو حتى شقق للايجار! ... كانت الشقة الصغيرة هنا بمثابة قصر باكنجهام مقارة بالفندق الحقير والمبانى الكالحة المحيطة بنا فى كل مكان بدلهى
قضى "سنجاى" مهمته ثم استأنفنا الرحلة ... لم تمض فترة طويلة حتى كنا عند البوابات حيث البداية الحقيقية للطريق الى "جيبور" ... بعدها مباشرة قامت "مهرو" باخراج "تورموس" شاى وصبت لنا الشاى بحليب فى أكواب بلاستيكية يبدو انها تحمل عدة أكل كاملة مصاحبة لها ... ولفظة "شاى" هنا هى كلمة هندية ايضاً لكن تطلق على الشاى بحليب مثل محافظات الوجه القبلى فى مصر
بعد فترة ... طلب "سنجاى" شيئاً ما من زوجته فاخرجت من حقيبة الأكل الكبيرة كيس أزرق اللون يبدو ككيس ال"تشيبس" وان كان أصغر ثم أفرغت له فى كفه بعض من محتويات الكيس وهى عبارة عن حبيبات صغيرة ترابية اللون والشكل فألفاها فى فمه دفعة واحدة ... ثم انها مدت لى يدها بالكيس ان "تفضلى" .. سألته ما هو فقالت انها أعشاب للمضغ تساعده – أى زوجها- على التركيز والانتباه ... مددت يدى لأخذ من الكيس – ذوقيا وليس لرغبتى الشديدة فى التجربة خصوصا بعد الأشياء العجيبة التى أكلتها مع "أتول" بالأمس – فاذا بشىء ينغرس فى ساقى بحدة ... كانت يد أمى وهى "تزغدنى" مع أرسال نظرة مرعبة جمدت يدى فى مكانها قبل الوصول الى الكيس ... سألتها بصوت حاولت ان يبدو طبيعيا عن السبب فقالت كلمة واحدة : "مخدرات!" ... طبعا كدت ان اسقط على الأرض من الضحك ... ثم مددت يدى وأخذت قطعة صغيرة من الحبيبات الترابية تذوقتها بلسانى فى حين كانت أمى تجز على أسنانها من الغيظ ... كان طعمها مثل التراب ايضا فى الحقيقة ... اكتفيت بمضغ القطعة الصغيرة ولم استكمل الجدال مع أمى ... لكن الحقيقة انى شعرت بعدها بشعور انتعاش مع دوار طفيف ... ربما هو ايحاء ... عموماً لقد علمت بعد عودتى ان هذا الشىء واسمه "بان ماسالا" له شقيق هو نوع من المخدر يشبه "القات" الذى "يخزنه" أهل اليمن – التخزين هو ان يضع المرء بعض من هذه الحبيبات فى ركن فمه ويبقيها كذلك فترة – ولكن ما أكلته أنا يبدو انه نوع "خفيف" منه لا يعطى تأثير المخدر! والله أعلم! وربنا ستر الحمد لله ولم أدمنه! أنا شربت حشييييييييش يا سعاد!

مرت الثلاثة ساعات التى تفصل بين "دلهى" و"جيبور" سريعا وصلنا أخيراً بعد حوالى 4 ساعات كاملة الى جبل عالى تبدو على قمته قلعة ضخمة يمتد سورها بطول منحدر الجبل أمامنا فيبدو كنسخة مصغرة لسور الصين العظيم ... قيل لنا ان تلك هى قلعة "أمير بالاس" وهى تعود الى عهد الموجول الاسلامى البائد وتم بنائها فى القرن ال16. ارتقينا بالسيارة الطريق الصاعد الى أعلى الجبل مروراً بين بيوت متوسطة الحال تشكل ما يشبه قرية جبلية حتى وصلنا الى القمة فاذا بسور القلعة أمامنا مباشرة ... انحرفنا يساراً بمحاذاة السور حتى وصلنا الى ساجة فسيجة لانتظار السيارات تطل على هاوية الجبل فركنا السيارة وترجلنا. ذهبت أنا فاعتليت السور القصير أمامنا فاذا بى أطل على قرية كبيرة تحتنا وعدد لا بأس به من المعابد الهندوسية القديمة بشكل سقفها القمعى المعروف المنتشرة تحتنا هنا وهناك
عدنا أدراجنا سيراً على الأقدام الى أول الشارع الذى دخلنا منه حيث كان أمامنا السلم الحجرى الصاعد الى بوابة القلعة. وبجوار السور كان هناك شاب هندى يقف وراء ما يشبه قدرة فول كبيرة ملفوفة بقماش أحمر ثقيل. كان هذا هو ال"كولفى" ... نوع من الآيس كريم المحلى له طعم شنيع لا أنصح بتجربته اطلاقاً (خصوصاً بعد ال "هاجن داز" فى أوروبا حيث لا وجه للمقارنة بالمرة)
ارتقينا السلالم الحجرية ثم عبرنا الى داخل القلعة عبر البوابة الرئيسية التى تدعى "سوراج بول" – أعتقد ان معناها بوابة الشمس - فاذا بنا داخل ساحة شديدة الاتساع ... فى صدرها عدد من الأعمدة المسقوفة وعن يمينها مبنى طويل من طابقين وله درجين منفصلين ... أما عن اليسار فهى أرض فضاء تمرح فيها مجموعة من الأفيال المزينة بالأقمشة فاقعة اللون على ظهورها والأصباغ الملونة على رؤوسها وخراطيمها. هذه الساحة تدعى "جالب شوك" ويقال ان فى الأزمنة القدية كانت تلك الساحة تستخدم لمسيرة الاحتفالية بالجيوش العائدة الى المدينة
تجولنا قليلاَ تحت الساحة المسقوفة ثم اتجهنا الى الدرج الأيمن للمبنى الكبير على يمينتا ... بضع درجات وكنا أمام باب أبيض ضخم بخارجه وعلى الأرض عدد كبير من الأحذية والمفهوم طبعا ان علينا خلع الأحذية قبل الدخول ... فهذا هو معبد "كالى" المشهور بتماثيله وأبوابه الفضية ... وتقول الأساطير ان مشيد القلعة والمعبد المهراجا "مان سينغ" كان يعبد الإلهة كالى ... فظهرت له فى المنام وأمرته باستعادة تمثالها من بطن بحر "جيسور" – موقعه الآن فى بنجلاديش – وان يضعه أى التمثال فى معبد يليق به فكان ان فعل المهراجا ذلك وقام ببناء هذا المعبد لحفظ التمثال المذكور... خلعنا الأحذية ودخلنا متجهين اتجاهاً اجباريا لا خيار غيره الى اليسار من المدخل... على الرخام الأبيض البارد الملمس وقفنا وسط ساحة صغيرة فى صدرها منطقة يتجمهر عندها الناس ... أمامها يتدلى من السقف جرس فضى كبير ... يقرعه الداخل مرة واحدة قبل ان يتقدم الى تلك المنطقة المقدسة المفصولة عن الساحة والجمهور بسور قصير ... أما ما تحتويه هذه المنطقة فهو عدد قليل من التماثيل الفضية البراقة للآلهة "كرشنا" وعيره ...وكان الزوار من الهندوس يتقدمون فيصلون أمامها لبضع لحظات إما وقوفاً أو جلوساً على ركبهم ثم يقومون فيتقدمون من رجل يحمل فى إحدى يديه طبق به شىء من الصباغ الأحمر اللون وبيده الأخرى يضع نقطة صغيرة باصبعه الملطخ بالصبغة الحمراء على جبهة المصلى – من باب المباركة
خرجنا من المعبد ونزلنا الدرج لنعتلى الدرج الآخر الموازى له فوصلنا الى بوابة علوية عبرت بنا الى ساحة أخرى بمنتصفها حوض منخفض يبدو انه كان فى يوم من الأيام مستقر لزروع ونباتات الا انه الآن يحتوى على تربة رملية فقط ... وعن اليمين هناك مبنى به عدد من النوافذ الزجاجية التى يظهر فى احدها كرسى من الكراسى التى كان يجلس عليها الأمراء ويحملها العبيد على أكتافهم ... أما على اليسار فمبنى صغير من طابق واحد مقسم الى عدة غرف... هذا يدعى "شيش محل" ... وهو مزخرف من الخارج بقطع من المرايا كانت تلتمع تحت ضوء الشمس من أرضية المبنى حتى سقفه ... ويستطيع المرء فقط ان يتخيل كيف يبدو هذا المبنى شاهق البياض عندما ينعكس ضوء القمر على مراياه الدقيقة فى الليالى المقمرة!
استغرقت الجولة فى القصر ما يقرب من الساعة والنصف ... انطلقنا بعدها الى السيارة لنستكمل الرحلة الى داخل مدينة "جيبور" نفسها ... فالقلعة تقع على بعد احد عشر كيلومترات خارج المدينة ... فى الطريق مررنا بموقع آخر قريب من القلعة وفى طريق نزولنا من على الجبل به مدفع حربى قديم ربما هو أضخم مدفع فى العالم ... يقال ان الذى كان يلقمه بالبارود كان مصاباً بالصمم الدائم!
ما ان نزلنا من على الجبل حتى كنا على طريق يختلف اختلاف تام عن الطريق الصاعد الى الجبل... فهو الآن كورنيش فسيح نظيف يحده الجبل يميناً وبحيرة تدعى "مان ساجار" يساراً ...وعلى بعد بضعة كيلومترات توقفنا مرة آخرى أمام مشهد من أشد المشاهد التى رأيتها روعة حتى الآن ... ففى وسط البحيرة ... وعلى مرمى بضعة أمتار من سور الكورنيش كان يقف هذا القصر الصغير الغارق فى مياه النهر فلا يظهر منه سوى طابق واحد وهو خامس أربع طوابق غرقت تماما تحت المياه ... ذلك هو "جال محل" ...القصر الغارق الذى تم بناؤه خصيصاً من أجل رحلات صيد البط الملكية فى القرن الثامن عشر
كان هناك عربة من عربات الباعة الجائلين استرعت انتباهنا بجوار الكورنيش فى هذه المنطقة ... فهى مغطاة بعدد لا بأس به من مختلف أنواع الفاكهة والخضروات والموالح ايضاً ... وكان ما يتم بيعه جد غريب! ... فالبائع يقوم بتقطيع خليط من كل تلك الآشياء ليصنع طبق من ال "فروت سلاد" مع فارق المكونات التى تحتوى على خليط عجيب من التفاح والبرتقال والجوافة والخيار والفجل والطماطم ... وفوق هذا كله يقوم البائع برش الملح والفلفل وخليط آخر من البهارات عليه! ولله فى ذوق خلقه شؤون!






وبعد ... أخيرا وصلنا "جيبور" ... "جاى" تعنى "النصر" و "بور" تعنى "مدينة" ... فهى "مدينة النصر" ... و"جيبور" هذه هى عاصمة مقاطعة "راجستان" – بتعطيش الجيم – التى تعتبر الكبرى بين مقاطعات الهند الثمانية وعشرون ... وهكذا أصبحنا فى المدينة الوردية ... وكانت بالفعل اسم على مسمى ... فعند مدخل المدينة تستقبلك بوابات حجرية وردية اللون بدت لى كقطعة من أفلام سندباد ... أسرتنى المدينة من أول لحظة حتى شعرت انى أركب بساط طائر وليس سيارة "سنجاى" التاتا! ... الحقيقة انى لا أعرف من أى بوابة دخلنا ... فالمعروف ان للمدينة ثلاثة بوابات هى الشرقية والغربية والشمالية بالتحديد ... وهى تعد – كما قرأت – من أجمل وأحسن المدن تخطيطاً حيث تمتاز بشوارعها العريضة المستقيمة التى تتجه من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب
عبرنا البوابة فاذا بنا فى شارع عريض تصطف على جانبية المحلات من طابق واحد فقط فتستطيع ان ترى الشارع باكمله على امتداد بصرك فلا يعوق رؤيتك أى شذوذ فى الارتفاع ... أخيرا وجدت شىء مختلف انبهر به فى الهند أم العجائب! ... لكن بعد أقل من 10 دقائق كان لى موعد مع انبهار آخر! "هوا محل"!!! ... فى منتصف هذا الشارع تقريبا وعلى الجانب الأيمن من الطريق يقع هذا المبنى الهائل المكون من خمس طوابق من الحجر الرملى الأحمر الوردى والذى تتشكل واجهته بالكامل من مجموعة دقيقة من النوافذ يبلغ عددها 953 نافذة و التى كان يستخدمها "الحريم" لمراقبة الحياة اليومية فى الشوارع بدون ان يراهم المارة وهو نفس مبدأ المشربيات فى المعمار الإسلامى وقد تم بناء تلك الواجهة لتماثل تاج الإله الهندوسى "كرشنا" ... لا داعى طبعا لشرح معنى الاسم الذى يعكس مهمة تلك النوافذ الدقيقة فى تمرير الهواء بجميع انحاء القصر فيظل بارداً حتى فى أشد الشهور حرارة
نزلت مع أمى و"مهرو" من السارة فى حين بقى "سنجاى" هناك وتوجهنا عبر ممر من المحلات الى الناحية الخلفية من القصر حيث البوابة الرئيسية التى عبرنا منها الى ساحة واسعة يحيط بها البناء الوردى من ثلاثة جهات ... وكان هناك مدخل على اليسار لسلم ... لا آسفة ... هو "مطلع" يؤدى غرض السلم الا انه يتكون من منحدرات بدلا من درجات السلم ... وهو فى رأيى المتواضع تصميم عبقرى يجمع بين البساطة والسهولة فى الاستخدام خصوصاً لكبار السن ... كان مما لاحظته ايضا وجود الكثير من الكتابات على الحوائط على طريقة "ألف – قلب – ميم" – يعنى "أحمد بيحب منى" .... أو لأنهم هنود فيجب ان تعنى " أنكور بيحب ميجنا" أو شىء من هذا القبيل – غريب جدا مدى التشابه بين الثقافتين الهندية والمصرية خصوصاً عندما نتحدث عن الفوضوية وثقافة التخريب!
وصلت الى الطابق الأخير فاذا بى أقف فوق مدينة "جيبور" باكملها! المنظر أكثر من رائع حيث ترى كل تفاصيل المدينة الدقيقة بمبانيها الوردية قصيرة الارتفاع وشوارعها الطويلة المستقيمة المتجاورة والمتعامدة كأنما رسمت بالمسطرة ... ومن بعيد أرى موقع ال"جانتر مانتر" الذى قرأت عنه ... وهو عبارة عن مجموعة من الآلات الهندسية القياسية التى كانت تستخدم لحساب الوقت والتنبوء بكسوف الشمس ومتابعة مدارات النجوم والعديد من القياسات الفلكية الآخرى





كان هناك مكان للجلوس فيما يشبه الشرفة بالدور قبل الأخير حيث جلست أمى و"مهرو" ينتظرانى ريثما ألتقط بعض الصور ... نزلت اليهما فادركت لما سمى المكان "هوا محل" ... فالهواء بالفعل يدخل من النوافذ الصغيرة من ثلاثة جهات فيملأ المكان كله بنسيم بارد جميل .... كان هناك سيدة أجنبية قد استلقت على متكأ تحت أحد النوافذ ويبدو ان "الهوا سطلها" ...!
نزلنا من القصر وتوجهنا الآن الى داخل المدينة ... خرجنا من البوابة المقابلة للباوار الكبير الى شوارع رئيسية أخرى لا يميز أبنيتها اللون الوردى اياه بل يغلب عليها اللون الأبيض ... مررنا بميدان كبير يتوسط شارع عريض تصطف أشجار شاهقة على جانبيه حتى وجدنا فى مقابلة هذا الميدان مبنى أبيض عريض هو ال "سيتى بالاس" أو قصر المدينة الذى تحول الى متحف الآن ... أو هو ليس المبنى كاملا بل واجهته فقط ... لم نستطع الدخول لأنه كان مغلقاً فى ذلك اليوم لكن ما سمعته ان القصر يحتوى على العديد من الأبنية والساحات والدواووين – تقسم قاعات الجلوس فى معظم القصور الهندية الى دواووين خاصة أى غرف لأهل البيت تسمى "ديوان-ى-كاص" ودوواوين عامة أى غرف للزوار والعامة و تسمى "ديوان-ى-آام" - الى جانب المساحات الشاسعة من الحدائق المحيطة به
عدنا أدراجنا الى البازار الذى أعرف الآن ان اسمه "جوهارى بازار" لكن تركنا السيارة فى ساحة انتظار عامة خارج البوابات ثم ركبنا "أوتو ركشة" – توكتوك – الى داخل البازار ... المحلات الوردية مصفوفة جنباً الى جنب بطول الطريق ولكل محل رقم مكتوب بوضوح على الواجهة المسقوفة التى تشبه الى حد كبير نظام البازارات الموجودة فى بورسعيد وشارع محمد على وبعد الأماكن فى الاسكندرية ... وليس عندى تفسير لذلك سوى التاريخ المشترك من الاستعمار الانجليزى




كان هدفنا الأول الذهاب الى أى مطعم لتناول الغذاء ... سأل "سنجاى" السائق على مطعم "حلال" من أجلنا ... فأخذنا الى مطعم أقرب صورة أستطيع ان أقرب مستواه بها لك هى صورة مطعم "الجحش" بالسيدة زينب وان كان الأخير يبدو ك"سيلنترو" فى نظافته بالمقارنة بذلك المطعم الهندى!!! طبعاً كانت أمى على وشك الإغماء من المشهد فعدلنا جميعا عن فكرة الأكل ال"حلال" وقررنا الالتزام بالأكل النباتى المتوفر فى كل مكان ... وقد كان ... فتوجهنا بترشيح "سنجاى" الى مطعم كبير يدعى "إل.إم.بى" ... هو فى الحقيقة مجمع يتكون من فندق ومحل كبير للحلويات الهندية ومطعم ... كان المكان شديد النظافة – طبعاً بالمقارنة بكل ما رأيناه خلال الأيام السابقة ... كان هذا يبدو كالريتزفى بريطانيا!
ما ان استقرينا على إحدى الموائد حتى تركنا "سنجاى" وذهب ليستأجر لنا حجرة فى الفندق ... عاد ليبلغنا بالسعر وكان – لدهشتنا – سعراً قليلا مقارنة بالفندق فى "دلهى" ومستواه ... وبعد ان فرغنا من الغذاء توجهنا الى الفندق لتفق الحجرة فكان ان زادت دهشتنا! العاملون يرتدون "يونيفورم" – فى الصورة "البواب" ... حيث يتميز الرجال فى الثقافة الراجستانية بالشوارب الطويلة كعلامة على الرجولة! - وهناك مصعد وباب الغرفة يفتح بالكارت الممغنط والغرفة نفسها شديدة النظافة ذات أثاث "مودرن" .... يااااااااه ... أخيراً أشعر اننا عدنا الى القرن الواحد وعشرين واننا خرجنا من فيلم "أمر أكبر انطونيو" الذى كنا نعيش فيه منذ وصولنا الى الهند!!!
تركنا الفندق وأنا أكاد أطير من الفرحة ... كانت الشمس تقترب من الغروب حين بدأنا الجولة الحرة فى السوق الكبير ... مررت بالكثير من الأشياء الغريبة ... فمثلاً هناك تلك الأقراص الكبيرة البنية من سكر القصب ... وهناك محل مثل محلات العصير عندنا لكنه يبيع مشروب من الزبادى يصبه من آناء فخارى كبير فى أكواب فخارية طويلة ... وهناك صناع الحلوى باياديهم الشريفة - لا أملك سوى ان أصاب بوعكة "لحظية" فى معدتى حين أتخيل الأكل من هذا الاناء! - وهناك الكثير والكثير من محلات الحلى من كل الأشكال والألوان ... فالمعروف عن النساء فى الهند حبهن الشديد للحلى خصوصاً الألوان الصارخة منها! – وهو شىء لم أفهمه ابدا الا انها ثقافات وأذواق!
أما الطامة الكبرى فكانت حين نظرت أمامى فوجدت هذا المشهد الذى لم أجرؤ على تصويره فأنا لا أعرف منظور الناس هنا لمن يصورون الرجال بالحمامات العامة!! نعععععععععم ... كان بإمكانى تصويرهم بالحمامات العامة أى والله العظيم ... الموضوع سهل جداً نظراً لأن هذه الحمامات لا سقف لها ولا باب ... هناك فقط جدار يفصل بين كل "حمام" والآخر الى جانب جدارين ساترين من الجانبين الأيمن والأيسر ... !!!أى ان الموضوع لا يعدو كونه بديل صناعى "للشجرة" التى يستخدمها السائقين على جانب الطريق الزراعى عندنا

Thursday, June 26, 2008

من العتبة الى القرية الذكية رايح جاى - الهند 4

هل تتخيلوننى أرتدى سترة جلدية وأضع على رأسى خوذة سوداء وأركب دراجة نارية خلف شاب هندى؟
هههههه ... حيلكم ... ما تسرحوش أوى ... صحيح انى كنت قاب قوسين أو أدنى من ذلك المشهد البوليوودى الخيالى الا انه لم يحدث قط ... القصة وما فيها ان "فينيش" هاتفنى البارحة وأخبرنى انه سوف يرسل صديقاً له يدعى "أتول" ليأخذنا فى جولة للعثور على فندق آخر ... بعد ان شكوت له من ضيق أمى بالغرفة التى تخلوا من النوافذ ومستوى الفندق العام ... وبالفعل وجدت رقماً غريباً يطلبنى فى المساء ... كان "أتول" هذا يتفق معى على اللقاء فى التاسعة من صباح الغد وأعطيته العنوان كاملاً ثم سألنى سؤالاً لطيفاً: "عندك مانع تركبى موتوسيكل؟" ... طبعاً لم يرى فكى الساقط مع سؤالى: "هتيجى تاخدنا على موتوسيكل؟" ... ضحك كثيراً قبل ان يشرح لى انه سيأتى بالسيارة من أجل جولة البحث عن فندق ثم سيقوم باعادة أمى الى الفندق ثم يأخذنى بعدها الى فرع الشركة – الشركة التى أعمل بها – حيث كنت قد وعدت الجميع بالزيارة اليوم ... ومن أجل ذلك فهو يفكر فى ترك السيارة والذهاب بالموتوسيكل كما تعود .... عرفت بعدها ان كثير من الهنود يمتلكون دراجات نارية الى جانب سيارتهم لانها اسرع وأوفر حيث ان الزحام هنا لا يطاق كما ان اسعار البنزين مرتفعة للغاية
طبعاً اعتذرت عن موضوع الموتوسيكل وقال هو انه لا يوجد مشكلة ... فناهيك عن انهم : "يجتلونى فى البلد يا ولد" لو فعلتها وتعلقت بوسط رجل غريب على موتوسيكل يقطع شوارع الهند هناك مشكلة الملابس حيث انى لا أملك سوى بنطالون جينز واحد وما دون ذلك هو جيبة من اجل الزيارات الرسمية مثل زيارة الشركة! ومع ذلك فقد ندمت على هذا القرار فى اللحظة التى وقع فيها عينى على "أتول" ... ففى التاسعة تماما من صباح اليوم الثالث نزلت أنا وأمى سلالم الفندق لنجد شاباً طويل القامة وسيم الملامح ينسدل شعره الناعم على عينيه فيزيحمها بحركة سريعة مع هزة من رأسه .... هو ده فعلا المشهد البوليوودى! يا نهاااااار! يعنى أنا كنت هاركب ورا ده؟ ضحكت أمى كثيراَ متخيلة المشهد! - أنا بهزر مش باعاكس ماحدش يفهمنى غلط! - ... استقبلنا بابتسامة بوليودية وانحنى لامسا ركبة أمى ... نظرت لها فى اذبهلال بمعنى: "هو بيعمل ايه فى ركبتك" ... ضحكت وأخبرتنى ان "سنجاى" فعل الشىء ذاته بالأمس وأخبرها انها تعبير عن "طلب المباركة" من كبار السن كنوع من الاحترام والاجلال
عرفت منه اننا سنتوجه أولاً الى منطقة تدعى "كونوت بلايس" أو باختصار "سى.بى" وهو يعتبر مركز المدينة ... بمجرد ان دخلتا تلك المنطفة احسست اننى قد انتقلت الى بلد أخرى ... فالمبانى كلها بيضاء – أو على الأقل كانت كذلك فى يوم من الأيام – وقد تراصت على جانبى شوارع منتظمة تبدأ كلها من مركز واحد: دائرة ذات قطر شاسع من الأرض الخالية تتوسط الحى بحيث يصبح المكان كله كقرص الشمس تتفرع منه الشوارع كخطوط الأشعة فى جميع الاتجاهات
كان الطراز المعمارى للمنطقة كلها شديد الشبة بمنطقة السوق الافرنجى بمدينة بورسعيد المصرية ... سألت "أتول" ان كانت هذه المنطقة تعود الى فترة الاحتلال الانجليزى للبلاد فأجاب بالايجاب. الآن عرفت سر الشبه ... غريب جداً ان تلمس آثار احتلال احد البلاد فى أكثر من بلد على بعد المسافة والاختلاف الشاسع فى الحضارات بين البلدان المحتلة ... نفس الشىء تلمسه عند التعامل مع الجهات الرسمية هنا فى مصر أو هناك فى الهند ... نفس البيروقراطية الانجليزية المملة تلقى بظلالها على مستعمراتها السابقة بعد عشرات السنين من أفول شمس الامبراطورية البريطانية

كانت المنطقة تتميز بشىء آخر غير الطراز المعمارى ... ساحات الانتظار .... هللوايا! هذه البلاد تعرف ساحات الانتظار! بل وهناك ايضا تلك الفصيلة من البشر التى تتوالد اطراديا فى بلدنا الحبيب وندعوها فصيلة "السباس" –جمع سائس – وهم بشر طفيليون ينمون فى الشوارع المصرية وخاصة أمام جميع المصالح الحكومية والمبانى التجارية وعند وجود أى مبنى يزيد تردد الزائرين له عن عشرة أفراد فى اليوم ... وهذه الفئة الطفيلية من البشر تتغذى بشكل أساسى على أوراق البنكنوت لافظة بحدة وتعالى أى ورقة تقل عن فئة الخمسون قرشاَ ... وهى تستخدم عديد من وسائل الالتهام للحصول على هذا الغذاء أهمها طريقة البلطجة ... حيث يقوم الكائن الطفيلى بالظهور أمامك فجأة اذا ما سولت لك نفسك ان تتحرك بسيارتك قيد أنملة ثم يقف بطريقة معينة هى ما بين التظاهر بمساعدتك وبين التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور ان سولت لك نفسك ان تنطلق دون ان "تقب بالمعلوم"! ومن وسائلهم ايضاً "التناحة" وهى وسيلة شديدة الفاعلية خاصة مع الطبيعة العصبية الغير صبورة لأى سائق سيارة مصرى "يحترم نفسه" ... فيقوم الكائن من هؤلاء بالوقوف فوق رأس السائق تماماً ويتمتم داخل أذنه مباشرة بعدة عبارات سحرية من عينة "مع السلامة يا باشا" ... "ربنا يباركلك يا بيه" ... "كل سنة وأنت طيب" ... حتى تحولت مصر فجأة فى السنوات الأخيرة الى مستوطنة للبكوات والبشوات كما ان الاحتفال بعيد ميلاد كل مواطن دائر على قدم وساق فى جميغ أنحاء المعمورة وبشكل يومى

توقف "أتول" أمام العديد من الفنادق ... وكان يذهب ليسأل ان كان هناك غرف متاحة وعن الأسعار ثم يعود ليأخذنا الى الداخل ان وجد شيئاَ ... على كل هو لم يوفق الى ذلك سوى فى مرتين: مرة فى فندق لا يوجد به مصعد والغرفة المتاحة تقع فى الدور الثالث مما لا يناسب أمى صحياً ... والمرة الآخرى كانت فى فندق غرفه بلا نوافذ ... لا أعرف سر عدم وجود نوافذ فى معظم ان لم يكن كل مبان الهند! شىء غريب فعلاً ... المفترض ان أول شىء تسأل عنه عند دخولك أى مكان هو المنظر الذى تطل عليه النافذة ... هنا السؤال أصبح: هل هناك نافذة من الأساس؟
بعد العديد من المحاولات الفاشلة نظراً لازدحام الغرف بسبب موسم الأفراح كما ذكرت آنفاً, توقف "أتول" أمام احد المحلات ليسأل ان كان هناك أى فنادق آخرى فى المنطقة فأسار اليه الرجل ان يتبعه ... تركنا أمى فى السيارة ثم سرنا خلف الرجل مسافة لا بأس به حتى أخذنا الى داخل أحد المكاتب السياحية ... استقبلنا رجل وآخذنا الى مكتبه الصغير بطرف المكان وأخبرناه بطلبنا فعرض علينا بعض منشورات الفنادق ... كانت كلها تزيد عن 5000 روبيه فى الليلة ... أى حوالى مائة دولار .... بعد حوارات وجدال طويل اتفقنا ان يحجز لنا فى أوتبل ب 4000 روبية فى الليلة ... كان هذا السعر يفوق ميزانيتنا بمراحل لكن لم يكن هناك مفر مع شكوى أمى المستمرة من فندقنا الحالى. أصر الرجل ان يأخذ كل النقود مقدماً ورغم اعتراضى دفعت مرغمة وأعطانى الإيصال مع المنشور الخاص بالفندق والذى يحمل عنوانه مع عدة صور لغرفه النظيفة ومكتب الاستقبال النظيف المختلفان كل الاختلاف عن فندفنا الحالى والذى يبدو مع المقارنة كبنسيون "الحسين" فى مصر – اذا أسعدك الحظ بزيارة منطقة الحسين أرفع رأسك قليلا وتطلع الى المبنى الموجود فوق محلات "المالكى" و "الدهان" فى الساحة المقابلة للمسجد العريق.
عدنا الى السيارة وانا فى صراع داخلى ما بين ارتياحى لانقضاء هم العثور على فندق مناسب وبين الميزانية التى دمرت بالكامل لكنى عموماً قررت بينى وبين نفسى ان احاول تناسى الأمور المادية حتى لا تفسد على بقية الرحلة أكثر مما هى مفسدة بالفعل
انطلقا الى الفندق الموصوف للتأكد من حالة الغرف وخلافه ... قطعنا ما يقرب من نصف مسافة العودة الى منطقة "راجورى جاردن" حيث الفندق الحالى حين دخلنا فجأة الى منطقة شديدة الزحام ضيقة الشوارع هى أقرب ما تكون الى منطقة "العتبة" فى القاهرة عرفت ان اسمها "كارول باغ" ... بدأ قلبى يخفق ... هل الفندق هنا؟
تبادلت مع أمى النظرات وعلى وجهى أعتى امارات التناحة فى حين "أتول" أوقف السيارة فى شارع جانبى على ناصيته محل أسماك حقير ... نزلت وقدماى لا تطاوعاننى ونظرت خلفى فاذا بالمبنى الموجود فى المنشور اياه ماثل أمامى ... الفرق الوحيد كان انه بدلاً من السماء الزرقاء النقية والأشجار الخضراء على جانبى المبنى الأبيض الجميل كان هناك مبنى أقرب الى الاصفرار منه الى البياض تحيطه مبانى قديمة كالحة اللون من الجانبين وأمامه على الرصيف المقابل أكوام من الزبالة!!!!!
حسبى اللللللله ونعم الوكيل! اللهى ينتقم منك يللى اخترعت الكمبيوتر جرافيكس اللى سمحتلهم يلعبوا فى الصور بالطريقة دى وينصبوا على السياح المختومين على قفاهم من أمثالنا!
قلت يا واد طنش خاااااااااااااااالص ... يمكن صور الغرف تكون صادقة ... بالفعل ما ان دخلنا الفندق حتى انتقلنا داخل صورة جرافكس ... نفس مكتب الاستقبال الصغير الأنيق مع لوبى ضيق لكن لطيف ... طلبنا مشاهدة الغرف فأخذونا – فى المصعد - الى غرفة نظيفة ذات أثاث حديث ومتسعة الى حد كبير. أخيراً تنفست أنا وأمى الصعداء وأخذنا نمنى أنفسنا بقرب تخلصنا من غرفة الفندق الآخر القميئة برائحتها اللعينة ... لكن الآن علينا العودة الى ذلك الفندق مرة آخرى حيث سأترك أمى وحدها لأول مرة فى تلك البلاد التى تركب الأفيال وأذهب الى محل العمل مع "أتول" كما اتفقنا
فى الطريق الى الشركة تبادلت أحاديث طويلة مع "أتول" عن كل شىء ... طبيعة عملى ومعارفنا المشتركة فى فرعى الهند ومصر ... كان يحب الرحلات وعنده خطط كثيرة للسفر فتحثنا كثيراً عن مصر وفرنسا وهولندا ... سألته أسئلة كثيرة عن كل شىء فى الهند وحكيت له طبعاً عن كل ما حدث لنا فى اليومين السابقين وضحك كثيراً على مغامراتنا مع سائق التاكسى اللعين بالأمس ... ثم انه سألنى ان كنت تذوقت الأكل الهندى بعد فأخبرته عن عشاء البارحة فقال لى انه يريد ان يأخذنى لتناول شىء خفيف من الأكلات الهندية الصميمة قبل التوجه الى الشركة ... وبالفعل وجدته يدخل الى ساحة انتظار عامة تحت أحد الكبارى ... ثم تبعته لنعبر الشارع المزدحم الى منطقة يبدو انها مدخل سوق محلى ... أعتقد ان اسمه "تيلاك ناجار" ... ولك ان تتخيل انه اذا كانت منطقة "كارول باغ" حيث فندقنا الجديد هى "العتبة" فان هذا السوق هو النسخة الهندية من "الموسكى" ... كما ترون فى الصورى فحتى "بدلة حمادة بجنيه" و"قميص أبو حمادة بجنيه" موجودين هناك ... لحسن حظى اننا لم ندخل الى السوق نفسه بل وقفنا على الناصية أمام هذا الرجل الأنيق بمحله المتنقل الذى يقابل عربات الفول عندنا ... أما ما يوجد أمامه فهو قطعة مدورة مما يشبه الخبز الناشف لكن ذات سماكة رقيقة جداً وفتحة من فوق ... وما يقوم به الرجل هو حشوها بيده الشريفة – الغير نظيفة أكيد – ببعض حبات الحمص الشامى المسلوق ثم يضيف عليها بعض من سائل أحمر ذا طعم حلو ثم يقوم بغمرها بيده الشريفة كذلك فى هذا الإناء الطويل الممتلىء بسائل حار الطعم يشبه عصير الليمون ويخرج يده فاذا بالقطعة المدورة ممتلئة بالخليط المتناقض من السائل الحار والسائل الأحمر الحلو فيضعها فى طبق ألمونيوم كما ترى من الصورة ويقدمها لنا ... أخذتها مرغمة مجاملة ل"أتول" – الله يقرفه – وصببت السائل الليمونى الحار فى الطبق ثم أكلت القطعة سريعا على قضمتين قبل ان أفكر كثيرا فى محتوياتها من جميع أنواع الجراثيم والميكروبات التى تعجز جميع موسوعات علم الإحياء عن جمعها فى مجلد واحد ... للمعلومة فقط وليس للاغراء بالتجربة هذا الشىء المأكول اسمه "جول-جب-با" أو "بانى بورى"... ربنا يشفى!
ظننت ان آخر ما فى جعبة "أتول" من "عزومات" قد نفد لكن هيهات ... لو لم يكن هندياً لأقسمت ان هذا الفتى هندى أصيل! ... مشينا مسافة عدة مبان بمحاذاة الشارع الرئيسى فكنا عند التاصية التالية وعلى رأسها محل كبير للحلويات ... الحقيقة ان الحلويات الهندية تشبه الى حد كبير جداً الحلويات الشرقية فى شكلها لكن نادراً ما تتفق معها فى الطعم ... فعندهم العديد من الأصناف التى يدرجونها تحت وصف "حلويات" رغم ان مذاقها مالح ... أشار "أتول" الى عدد من الأصناف معطياً اياى اساميها لكن طبعاً لم يعلق بذاكرتى منها سوى الصنف المسمى "حلوى" – أو "حلفا" بتعطيش الفاء كما يكتبونها – والذى أكلته فى الفرح بالأمس ... ثم أنه طلب قطعة من صنف ما يدعى "راسجوللا" – وهو ما بدى لسمعى كمن يقول "رزق الله" – وهو عبارة عن كرة بيضاء لا طعم لها تقريبا تغوص فى سائل أبيض شديد الحلاوة ... تذكرت اننى أكلت هذا الصنف من قبل ايضا فى الطائرة
سألنى "أتول" عن رأيي فى الأكل فرفعت له إبهامى بمعنى "سوووووبر" وأنا أجز على أسنانى وبصعوبة أمنع نفسى من إفراغ عشاء البارحة كله على الأرض كلما ومضت فى رأسى صورة الجراثيم الزاحفة على ما أكلته لتوى ... كانت تعبيرات وجهى هى تقمص محترف لوجه سمير غانم وهو يجلس أمام شيرين فى مسرحية المتزوجون وهى تقول له "كل ده من حلاوتها"!
وأخيراً وصلنا الى الشركة بعد قضاء حوالى ساعة أخرى فى الطريق ... فالشركة تقع فى مدينة تماثل "القرية الذكية" – مع عدم وجود أى نوع من الاجرائات الأمنية الموجودة فى تلك الأخيرة – فى اول طريق مصر/ الاسكندرية الصحراوى ... هذه المنطقة تدعى "جورجون" وهى مدينة من تجمع لعدة مدن جديدة "تحيط بنيو دلهى وتسمى المنطقة بالكامل ولاية "هاريانا
والداخل إلى "جورجون" هو فى الواقع يقوم بنقلة حضارية كاملة ... فالمكان يختلف شكلاً وموضوعاً عن دلهى ... سواء فى الأبراج الزجاجية المرتفعة التى تحمل أسامى أكبر الشركات العالمية مثل IBM … DELL … Ericsson وغيرها الى شكل البشر أنفسهم الذين يرتدون البدل وربطات العنق ... وان كان المشهد فى الشوارع المجاورة لا يخلو من بعض آثار شعب دلهى الطبيعى كما ترون فى الصورة
ما أن وصلنا الى الشركة حتى قام "أتول" بالاتصال ب"فينيش" يخبره بوصلنا ... صعدنا فى المصعد الكبير الذى يتسع ل 20 شخص على الأقل وكان "فينيش" على الباب لاستقبالى ... تركنا "أتول" ذاهباً الى مكتبه فى طابق آخر بينما أخذنى "فينيش" فى جولة سريعة حول المكان ... الحقيقة لا وجه للمقارنة اطلاقاً بين موقع الشركة فى الهند وموقعنا فى مصر ... أولاً مساحة الطابق الواحد رهيبة تتسع لأكثر من 800 موظف ... قال لى "فينيش" ان مثل هذه المبانى يتم انشاءها فى سرعة رهيبة لأنهم لا يقومون ببناء حوائط وانما فقط عواميد وأرضيات ثم يقومون بتقفيل جميع الجهات بالزجاج ... ثانياً الخدمات المتوفرة: مطعم كبير يخدم الموظفين وغرفة استراحة صغيرة بها "انتريه" جلد وشاشة بلازما يصل حجمها الى 70 بوصة تقريباً و –صدق أو لا تصدق – "فون بوث" للمكالمات الدولية!!
الحقيقة كان الاستقبال رائع من الجميع ... تعرفت على معظم من أتعامل معهم عن طريق التليفون والايميل فقط فى مصر كما قابلت عديد من الأشخاص الذين كانوا قد قاموا بزيارتنا من قبل فى القاهرة ... كما ان مدير الفريق الذى اتعامل معه هناك أعد لى مفاجأة لطيفة حيث وجدت اثنان من زملائى يدعوننى للنزول الى "كوستا" تحت المبنى لأقابل بقية الفريق ... وبالفعل وجد الفريق كله مجتمع ... من أعرفهم ولا أعرفهم ... وعرف الجميع انفسهم واحد واحد لكن طبعاً بعد 10 دقائق فقط كنت قد نسيت أى اسم يتفق مع أى وجه!
الحقيقة ان الهنود شعب مضياف وكريم الى أقصى الحدود ... فمقارنة بهم نحن المصريون نبدو كاليهود!
انقضى اليوم سريعا بين الزيارات والترحيبات حتى كانت الساعة السادسة ... موعد المغادرة فى سيارة الشركة مع "آرتى" ... فكل خمسة أو ستة موظفين مخصص لهم سيارة "مينى فان" للذهاب والعودة يومياً.
أما عن رحلة العودة تلك فحدث ولا حرج ... هى هجرة جماعية لجميع الحشود الجامعة من الموظفين العاملين بكل الشركات المتواجدة بجورجون ... فاذا عرفت ان شركتنا وحدها بها 1300 موظف فلك ان تتخيل حجم الجحافل المغادرة فى نفس التوقيت من "جورجون" الى "دلهى".
قضينا أكثر من ساعة تقريبا على الطريق السريع – وهو يدعى "سريعا" مجازا لأنه لا يفرق عن حالة محور 26 يوليو عندنا – حتى وصلنا الى دلهى ... ثم ساعة آخرى داخل دلهى كنت قد وصلت الى حالة من الاختناق والغثيان من فرط الزحام ونقص الأكسجين لم أعرفها أبداً فى أشد الأيام ازدحاماً فى القاهرة المحروسة حتى وصلنا أخيراً الى "راجورى جاردن" ... نزلنا فى الشارع الرئيسى مقابلين ل "سيتى سكوير مول" وأخذنا "ركشة" لمدة لم تزد عن ال10 دقائق حتى الى الفندق ... ودعتنى عندها "آرتى" لتركب الباص الى بيتها فى حين عدت أنا مرهقة لأتفقد أحوال أمى ... قالت انها تجولت قليلا فى الشوارع المجاورة والمول القريب ثم نامت معظم اليوم ... ثم اننا تشاجرنا بسبب شكواها من المكان والبلد والرحلة من أساسها فخرجت غاضبة ووقفت فى الشارع والجوع يقرصنى ... نظرت أمامى فوجدت "ماكدونالدز" ... دخلت وطلبت وجبة "ماك فيجى" النباتية آخذتها وعدت الى الغرفة ... أكلت الساندوتش الصغير الشبيه بقرص الطعمية ثم نمت فى صمت ... لا أريد التفكير فى الأيام القادمة



Tuesday, April 29, 2008

من خرج من داره ... يستاهل ما جراله ( الجزء االثانى) – الهند 3


تحرك التاكسى مرة أخرى عائداً إلى الشارع الرئيسى حيث نرى القلعة الحمراء مرة أخرى فسألت السائق هل نقوم بزيارتها أم لا فقال لى ان اليوم هو الاثنين حيث تكون مغلقة. بعدها بدقائق معدودة جائتنى مكالمة من "فينيش" مرة آخرى ينصحنى بزيارة مكان اسمه "نظام الدين دارجا" – ينطقونها "نيظامودين" – وهو – كما أخبرنى – مكان تمارس فيه الطقوس الصوفية ... ثم طلب منى ان أعطى الموبايل للسائق كى يشرح له الطريق ... ارتعشت يداى وانخلع قلبى من صدرى وأنا أسلم الموبايل كمن يسلم كفنه الى كتلة الجراثيم الجالسة فى المقعد أمامى ... تبادل معه كثير من الكلام وايماءات الرأس ثم مد لى يد معروقة قذرة سوداء الأظافر كلحيته النامية وشعرة الملزق بالفازلين يرجع الى الموبايل ... مددت يدى بقرف التقطه بواسطة منديل فى حين أخرجت أمى – أكرمها الله – زجاجة عطر من شنطتى فرششت الموبايل بالكامل ومسحته جيداً بالمنديل قبل ان أضعه بقرف شديد ايضاً على أذنى مرة أخرى لأودع "فينيش" ... بعد حوالى 15 دقيقة من السير فى الشوارع المقتظة توقف التاكسى فى شارع جانبى عريض وخالى نسبياً أمام "حارة" صغيرة وقال كلمة واحدة: "نيظامودين"!!! ... نزلت أنا وأمى ووقفنا أمام الحارة مذهولين فاغرى أفواهنا ... فلا شىء أمامنا سوى محلات – أو بالأحرى دكاكين – قذرة لا أعرف ولا أريد أن أعرف أصلاً ماذا تبيع أو ما تصنع ... وجميع من حولنا من الناس ينظرون إلينا كما لو كنا هبطنا من سفينة فضاء ونحمل هوائيات على رؤوسنا!
طلبت "فينيش" مرة آخرى ووصفت له المكان فقال اننا يجب ان نتوغل أكثر فى ذلك الشارع حتى نصل الى ضريح "نيظامودين" ... تحولت الى أمى لأشرح لها ملخص المكالمة فاذا بى أرى فى عينيها أعتى إمارات الهلع ... فقد تحولت نظرات الناس حولنا الى "زغر" وكان اثنان من الشحاتين المصابين بأشنع أنواع الأمراض الجلدية ليس بأقلها الجزام قد بدأوا يحيطون بنا مادين ايديهم باستجداء ... ذلك ومع انتباه عدد لا بأس به من زملائهم الينا وعقدهم العزم على الزحف المقدس الينا كما فعل الأولين ... فصار المشهد أرب ما يكون الى زحف الزومبى – الموتى الأحياء – فى فيلم "كوينتن تارنتينو" المقزز "من الغسق حتى الشروق" ... وكما حدث مع أبطال الفيلم المذعورين ... فزعت أمى وأخذت تجذبنى من كمى عائدة الى السيارة ولا شىء على لسانها سوى جملة واحدة: "على جثتى أدخل هنا" ... "على جثتى أدخل هنا" ... لعنت "فينيش" فى سرى ألف مرة ثم لعنت نفسى مليون أخرى على خروجى من باب الأوتيل اليوم
سار بنا التاكسى بعد ذلك الى معبد اللوتس ولم يكن ببعيد فتوقف بنا بجوار سور يحيط بحديقة واسعة يبدو فى وسطها مبنى أبيض شديد الجمال مصمم على شكل زهرة لوتس بالفغل ... بدا من بعيد أصغر بكثير من صوره على المواقع البهائية حيث انه أكبر معابد هذه العقيدة فى العالم ... نزل السائق وفتح لى الباب كى أترجل فسألته عن بوابة الدخول فقال : "مانداى مادام ... أول كلوزد" ... هذا ايضا مغلق؟ ... حسبتها فى سرى انى سأحتاج الى يوم آخر لأعيد زيارة المعبد والقلعة ... التقط بعض الصور فى عجالة ثم عدت للسيارة وسألته اذا كنا سنتوجه الآن الى "قطب منار" – تنطق "كوتوب مينار" – فأومأ برأسه ... سألته ان كان مفتوح للزيارة أم لا فأجاب ببساطة "مانداى مادام ... أول كلوزد" ... هنا كان قد طفح بى الكيل ... هنا ثرت فى وجهه .... اذا كان اليوم هو الاثنين وهو يعلم ان كل المزارات السياحية مغلقة لماذا لم يقل هذا من البداية؟ شعرت انى "بتختم على قفايا" وانه فصل آخر من مسلسل استغلال السائحين اياه فأخذتنى الجلالة واعطيته ما فيه النصيب ... ولأنه يعانى من فقر فى اللغة فلم يستطيع الرد فأشار الى الموبايل انه يريد التحدث الى أصدقائى الهنود ... فطلبت "آرتى" وكانت قد هاتفتنى منذ بضع دقائق ... فشرحت لها ما حدث وانى مستاءة من حركة "الاستهبال" التى تعرضت لها ثم ناولته الموبايل فأخذ يتحدث بضع دقائق فى حدة وان وضح من طريقة الكلام وحركات اليد والايماءات – اكتشفت فى هذه اللحظة انها بالفعل لغة عالمية – انه ينفى مسؤوليته عن الخطأ وانه أوصلنا الى حيث طلبت ... أعاد الموبايل اليه فتككرت عملية الرش و التعقييم السابق ذكرها بحذافيرها ثم عدت ل"آرتى" التى أخبرتنى انه يقول انه أخبرنى ان كل شىء مغلق فى بداية اليوم ... وكانت تلك هى القشة التى قسمت ظهر البعير ... انه ينصب على شىء وان يكذب فهو شىء آخر ... وقعته سودة ان شاء الله زى شعره! ... أقسمت بأغلظ الايمان ان اخصم منه نصف المبلغ المتفق عليه ولو أفضى الأمر الى الذهاب الى البوليس لو كانت هذه البلد تعرف البوليس ويانا يالسفارة فى قلب العمارة
بالفعل أعطيته توجيهات مقتضبة بالعودة الى الأوتيل وما ان نزلنا أمامه حتى أكتشفت انى لا أحمل سوى عملات من فئة ال 500 روبية فقط ولا شىء أقل ... فناولته ورقة منهم على مضض وأنا أقول فى سرى "حر ونار فى جتتك يا شيخ" ... نظر لى بتناحة – يا بجاحتك يا أخى – وقال "سيكس هندرد مادام" – ياخويا اشمعنى دى الى رطنت فيها بالانجليزى؟ - فاعدت على مسامعه الموشح اياه وكيف انه كذب على ولم يخبرنى من البداية إلخ ... فعاد يطلب 100 روبية مرة أخرى – ده جنان ده وللا ايييييه؟ - وكنت قد وصلت الى قمة الغيظ فقلت له بحدة "نو ... 500 ... بس" ... قلت "بس" فعلاً لأن لها نفس المعنى فى اللغة الهندية ... أى "كفى" ! ثم أدرت وجهى وتأبط ذراع أمى التى كانت فى حالة ذهول من بنتها اللى عمرها ما قالت "بم" لواحد مصرى وجت الهند "تشوط" فى خلق الله!
حين وصلنا الى باب الأوتيل تذكرنا فجأة – أى والله – اننا لم نأكل منذ الصباح واننا نتضور جوعاً الآن ... تذكرت انى قد رأيت مول شكله نضيف قريب من شارعنا فققرنا السير حتى هناك
استغرقت المسافى حوالى 7 دقائق على الأكثر ... كان المول نضيف بالفعل ... على مستوى سيتى سنتر فى مدينة نصر تقريباً ... كان هناك العديد من المحلات العالمية ... أزياء وملابس رياضية وأحذية وخلافه ... لككنا توجهنا الى الدور الثالث مباشرة حيث محلات الأطعمة – الفوود كورت - ... كان الشىء الوحيد المناسب والمضمون هناك هو "بيتزا هت" ... طلبت اثنين بيتزا كومبو وجلسنا ننتظر بفارغ الصبر .... آخر مرة أكلنا فيها كانت فى الطائرة بالأمس!
بجوارنا مجموعة من المراهقين يحتفلون بعيد ميلاد أحدهم ويدندنون لحن عيد الميلاد الشهير بكلمات هندية ... الجو العام لا يختلف بالمرة عن أى مول فى مصر ... ربما باستثناء الأزياء الهندية ذات الألوان الصارخة
ذهبت لاستلم البيتزا فصعقت ... نظرت للرجل فى بلاهة وهو يقدم لى علتين صغيرتين مع كوب قصير من الكولا وهو الحجم المعروف عندنا ب "هابى ميل" ... اخذتها وقابلت نظرة الذهول فى عين أمى بنظرة من نوع "احمدى ربنا فى يومنا اللى مش فايت ده" ثم اتينا على الحرث والنسل فى أقل من 10 دقائق حتى خفت ان أكون أكلت اجزاء من العلبة الكرتون! وكان هذا هو الدرس الثانى لنا بعد درس معاملة السياح : الوجبات فى الهند نسبة وتناسب مع حجم الهنود القصير الضئيل بوجه عام ... اتذكر ان "فينيش" كان يتعجب من هول حجم الوجبات فى مصر!
عدنا الى الأوتيل قبل دقائق قليلة من المغرب فصلينا الظهر والعصر جمعا وقصرا ثم انى رغبت فى التجول قليلاً فى الشوارع المجاورة بينما آثرت أمى النوم ... عبرت الشارع باتجاه المول الآخر المواجه لنا واسمه "تى. دى. آى" مول ... وكما عرفت بعد ذلك ان هذه ال"تى. دى. آى" هى من أكبر شركات الدعاية والاعلان وتمتلك عدد كبير من المراكز التجارية فى أماكن متفرقة من الهند ... والحق ان مستوى المول وفخامته تليق بهذا ... فالفرق بين "سيتى سكوير" مول الذى تناولنا فيه الغذاء وهذا كالفؤق بين "طيبة" و"سيتى ستارز" فى مصر .... فى المدخل قابلنى معرض لأحدث شاشات الكمبيوتر واللابتوب والآى بود ... وعلى يمينى احدث العطور العالمية وأكثر ساعات اليد والمجوهرات أناقة
بعد التجول لفترة قليلة بين هذه المعروضات ساقتنى قدماى الى مكتبة صغيرة اسمها "كروسوورد" وهى مكتبة ذات فروع كثيرة فى الهند مثل "دار الشروق" عندنا مثلاً ... وطبعاً كنت كطفل وجد نفسه وحيداً فى مدينة الملاهى ... فقضيت هناك مدة لا أدرى مدتها حتى جاءتنى مكالمة من "آرتى" تقول انها تنتظرنى الآن بالفندق
لملمت مشترواتى من الكتب سريعاً وعدت الى الفندق لأجدها تجلس مع أمى فى الغرفة يتحدثون بالاشارات طبعاً ... وكان أمامهما على المنضدة الصغيرة طبق تعوم فيه مكعبات صغيرة صفراء تبدو مثل الكعك الاسفنجى – ذكرتنى بالاسفنجة التى نغسل بها الصحون فعلاً وان كانت أصغر حجما – قالت "آرتى" انهها احضرتها من منزلها لنا ... قالت لى أمى بابتسامة عريضة على وجهها تخفى ما تقوله "دوقيها ... تقققققرف" ... استبشرت خيراً واضطررت أدبياً ان اتذوقها ... كانت , وهى ما يسمونها "دوكلا" هى أشنع شىء تذوقته فى الهند حتى الآن بالفعل ... لم يفرق طعمها الذى لا مذاق له ولا رائحة عن طعم اسفنجة الصحون المبللة بالفعل
قالت "آرتى" ان "سنجاى" قادم الينا هو وزوجته الآن .... قادم؟ قادم فين؟ ... يا نهاركو... نهارنا ... مش فايت! هما الحياة عندهم سون فاسون كده ليه ياخويا؟ ... والأخ "سنجاى" فعلا مكدبش خبر ... لم تمض 15 دقيقة حتى كان يطرق الباب ... قامت "آرتى" لتفتح الباب ودلف هو ليجلس على طرف السرير فى تلقائية شديدة ولتجلس أمامه امرأة قصيرة ممتلئة القوام بنية الشعر ناعمته ... انطلقت هذه – أى زوجته – فى الكلام فوراً معرفة نفسها باسم "مهروو" وبانها "رغاية قوى" على حد تعبيرها
كانوا حقيقة غاية فى اللطف والاهتمام حتى انهم عرضوا علينا ان يصطحبونا لزيارة بلدتى "جايبور" و "آجرا" (اذا لم نمانع صحبتهم) على حد تعبيرهم ... نمانع؟ كان هذا انقاذ حقيقى لنا ... فبعد تجربة اليوم فى التعامل مع سائقى التاكسى وكل قطاع السياحة فأنا افضل ان اكون فى صحبة هندى "ابن بلد" والا فلأقضى بقية الرحلة فى الأوتيل
كانت أمى منبهرة بلطف المعاملة والاهتمام والكرم الحاتمى الذى نتلقاه فصممت ان نرد ولو جزء يسير ونقوم بدعوتهم على العشاء ... بعد مجادلات طويلة بدت تماما كعادة المصريين حتى ظننت لوهلة ان " سنجاى" سيحلف علينا يمين طلاق انطلقنا الى الشارع وان ودعتنا "آرتى" لانها متعبة بعد يوم شغل طويل كما انها يجب ان تعود لرعاية أمها المقيمة وحدها
لم نبتعد كثيراً عن منطقة "راجورى جاردن" التى نقيم فيها وان كانت جميع الشوارع تقريباً تمتلىء بمظاهر الاحتفالات ربما أكثر من اليوم السابق ... مررنا بالعديد من مواكب العرس فى الطريق ... وموكب العرس هنا – صدق أو لا تصدق - لا يختلف اطلاقاً عن مفهوم "الزفة" عندنا ... لعل الاختلاف الوحيد انها تكون زفة للعريس فقط - قد تجلس بجوار العريس فتاة آخرى هى اخته او ابنة عمته/خاله - وهو فى طريقه لملاقاة العروس على حصان مزين أو عربة مثل الحنطور يجرها حصان مزين وتتقدمهم فرقة موسيقية تبدو من بعيد بالملابس البيضاء المزركسة والأحذية ذات الرقية الطويلة والقبعة العالية وآلات النفخ والآلات النحاسية ... تبدو كأنها "فرقة حسب الله" فى نسختها الهندية
وصلنا الى مطعم هو عبارة عن ساحة كبيرة امتلأت بالمناضد والكراسى البلاستيكية - هو مصانع الشريف للبلاستيك وصلت الهند؟ - فيما يشبه مطاعم الكباب والكفتة عندنا فى مصر ... جلينا نتصفح قائمة الطعام فلم افهم منها شيئاً فطلبت مساعدة "مهروو" فى اختيار اطباق مناسبة ... كان المتاح لنا بالطبع هو الأكلات النباتية وكان هذا من أكثر الأشياء ان لم تكن الشىء الوحيد الذى اسعدنى فى هذه البلاد ... فأنا كمسلمة لا أواجه اى مشاكل فى الحصول على وجبات مناسبة هنا ... فبالاضافة لوجود العديد من المطاعم الحلال التى تقدم لحوما مذبوحة على الشريعة الاسلامية وخذوذا فى المناطق التى بها كثافة سكانية عالية من الهنود المسلمين... فان معظم الهنود وخاصة الكثير من الهندوس وطوائف أخرى هم نباتيين لا يأكلون اى شىء حى ... لذلك فأى مطعم فى الهند صغيراً كان أو كبيراً فهو يقدم قائمتين للطعام: نباتى وغير نباتى
كان الطعام لطيفاً وان كان حاراً كما هو متوقع من بلاد السبايس! فالشىء الوحيد الذى تستطيع ان تأكله بأمان هنا هو الخبز ... وهناك أنواع كثيرة من الخبز هنا ... أهمها "النان" و"الروتى" و"الشاباتى" ... سأتى على شرح ذلك فى يوم آخر ان شاء الله
فى طريق عودتنا الى الفندق ... وكانت الساعة تقترب من منتصف الليل والشوارع اصبحت شبه خالية ... سألتنى "مهروو" ان كنت احب ان اتفرج على عرس هندى كبير ... قالت ان ابنة أخت صديقة لها تتزوج الليلة فى ساحة عرس غير بعيدة عن الفندق ... لم أمانع ... خصوصا انه كان باستطاعتنا بالفعل ان نرى ساحة العرس من بعيد ... وصلنا هناك فاذ بنا امام مساحة شاسعة من الأرض المسورة بسياج قماشى من الألوان الصفراء والبرتقالية الفاقعة فيما يبدو كأرض المعرض السورى بأرض المعارض بمدينة نصر – على فكرة ..المعرض ده مضروب وحاجته غالية ع الفاضى – لكنه أكثر فخامة طبعاً
استقبلتنا صديقة "مهروو" فى مدخل الساحة وقادتنا مع ابنتها الصغيرة الى الداخل ... فى صدر القاعة هناك مقعدين مذهبين غاية فى الضخامة هما المقابل لل"كوشة" عندنا ... وعلى اليسار هناك مائدة طوييييييييلة جداً نصبت لأفراد العائلة يتوسطها العريس وعروسه اللذان توجهنا اليهما بالتحية فيما أخذت السيدة – مضيفتنا – تمر بنا مرور سريع على العائلة وتعرفنا بهم – مين دول اصلاً؟ ...أهل بنت أخت صاحبة مرات ابن عم "آرتى" اللى هى زميلتى أنا فى الشغل! ويا وانيس ياللى!! هههههههه - ثم قادتنا الى البوفيه وصممت ان نأكل شىء ولو يسير وكانت ستحلف بالطلاق مرة آخرى لولا ان مددت يدى لآخذ بعض من الحلوى فى طبق صغير ... لا أذكر بالطبع أنواع الحلوى لكن هناك نوع معين كان شديد الشبه بالبسبوسة ويسمونه ماذا؟؟ تخيلوا ... اسمه بالهندى "هالوا" ... أى "حلوى"! سبحان الله
فى طريقنا للخروج وقفنا نتحدث قليلا بجوار سيارة جديدة كانت تقف بالمدخل ملفوفة بشريط أحمر ... ذكرتنى بجوائز الشمعدان اللى كل ما تحبه هيحبك كمان وكمان ... لكن "مهروو" أوضحت ان هذه السيارة هى هدية من أهل العروسة لأهل العريس كما هو العرف السائد هنا ... أكرر ... الهدية من مييين؟ من أهل العروسة .... ولمييييييييين؟؟؟ لأهل العرييييس ... وبالسؤال عرفت انه كلما قل مرتب العروسة او كانت لا تعمل من الأساس كلما زاد ثمن الهدية التى يجب ان يقدمها اهلها ... ! يعنى تقدروا تعتبروها مكافأة متواضعة من أهل العروسة لأهل العريس لأنهم تكرموا وتعطفوا وخلصوهم من البلوة .. ارر ... احم ... قصدى العروسة اسم النبى حارسها بنتهم. طبعا كل الولاد اللى هيقروا البوست ده هنلاقيهم من النجمة طالبين حق اللجوء السياسى لجمهورية الهند المتحدة