انطلقت السيارات بنفس النظام الواحدة تتبع الأخرى وقد زاد عدد القافلة اثنان مع وجود السيارتان المصريتان ... كان ابن احدهما وهو طفل ضغير فى الثانية عشر من عمره قد صعد فوق شبكة السيارة واستقر متربعاً فوقها ومتشبثاً بأعمدتها جيداً فى حين انطلقت السيارة بسرعة هبوطاً وصعوداً ... لابد انه شعور رائع بالاثارة ان تكون على هذا الارتفاع والسيارة تهبط بك بزاوية حادة على منحدر الغرد ... سأل "ميكيل" سائق السيارة ان كان يستطيع ان يفعل مثله ويصعد فوق سطح سيارتنا فرفض السائق لأن الشبكة محملة بمعدات التخييم ... كما ان هذا ممنوع قانونياً واذا تم ضبطه ستسحب رخصة قيادته لمدة شهر مع الغرامة
مضت 15 دقيقة تقريباً وتوقفت كل السيارات بعد ان "غرزت" واحدة منهم فى الرمال ... نزل جميع السائقين يحفرون تحتها لاستخراجها من الرمال ... بعد فترة تحركت قليلاً وهبطت غرد قريب ثم ما لبثت ان توقفت مطلقة دخان أسود كثيف من "الشكمان" ... نزل بقية الرجال من أجل اصلاحها فى حين بقينا نحن على قمة الغرد ... تفرق الناس كل مجموعة من اثنان أو ثلاثة يتحدثون معاً حتى عاد السائقون وقد أصلحوا السيارة ... استغرقت هذه العملية حوالى 20 دقيقة احترقنا فيها بشمس الصحراء الملتهبة
بدأت القافلة فى التحرك مرة أخرى وكان "ميكيل" قد صعد فوق سيارة المصرى بجوار الولد اياه ... توقفنا عند مدخل الواحة حتى ينزل هو والولد من فوق الشبكة حتى لا نتعرض للمخالفة القانونية. لم تمض 5 دقائق حتى كنا فى منتصف السوق بالواحة ... جاءنا "سيد" فأخبرنا ان الرحلة قد انتهت وأن المجموعة اليونانية ستذهب بعد ذلك الى منطقة تدعى "أبو شروف" 30 كم خارج الواحة ... كنا اكتفينا من الصحراء ونريد ان نأخذ "دش" ضرورى للتخلص من الرمال التى تملأ ملابسنا وتلتصق بجلدنا وحتى نشعر بها فى أفواهنا ... كما اننا بحاجة ماسة للراحة قبل القيام بأى خطوة أخرى ... قلنا ل"سيد" اننا نفضل الذهاب الى أى فندق للراحة أولاً ثم نقوم بزيارات المشاهد السياحية فى البلد ... نقدناه أجر الرحلة وأخذنا إلى فندق اسمه "بالم ترى" ... لم نجد غرفة شاغرة كما ان الفندق نفسه لم يعجبنا ... كان رفيقانا الايطاليان قد قررا السفر هذه الليلة ليصلا القاهرة ومنها الى "سانت كاترين" لارتباطهم بجدول مواعيد ضيق ... بالتالى كانت المشكلة عندنا نحن فى ايجار غرفة لقضاء الليلة ... آخذنا "سيد" الى فندق آخر قريب اسمه "كيلانى" هو عبارة عن مبنى جديد يشبه عمارات شارع "فيصل" فى الهرم بلونه البمبى الخالى من الذوق ... صعدنا نتفقد الغرفة فوجدناها واسعة نظيفة تتسع لسريرين ودولاب ومائدة مع اتساع فى المساحات وحمام نظيف متوسط الحجم ... وافقنا على الايجار ودفعنا 50 جنيه ثمن الليلة ... يا بلاش!
افترقنا عن الايطاليان على ان نلتقى أمام الفندق بعد ساعة لنبدأ رحلتنا ... آخذت "دش" سريع وغيرت ملابسى فشعرت بالنشاط والحيوية من جديد ... بعد ساعة كلمتنى "سيمونا" تخبرنى بقدومهما الى حجرتنا من أجل الاغتسال ... بعدها بربع ساعة كنا فى الشارع ... كانت "لورا" قد منحتهما دراجتين فذهبنا نؤجر لنا دراجتين ايضا من المحل المقابل للفندق وتركناهما فى السوبرماركت تحت الفندق لشراء بعض الأطعمة الخفيفة للغذاء ... استعجبت لرفضهما أن نشارك فى ثمن الطعام واصرارهما على "العزومة" بطريقة المصريين ... يبدو ان ما يحكى عن تشابه كل شعوب البحر المتوسط صحيح ... فان صح فنحن نشترك ايضاً فى الدم الحامى والضوضاء والصوت العالى
بدأنا رحلتنا على الدراجات ... درجات عريضة من النوع الجبلى التى أكرهها ... فى صغرى كنت أحب الدراجات الصينى الخفيفة لخفتها وسرعتها ... لكن الدراجات من هذا النوع الأخير لا تتحمل طرق الواحة الغير ممهدة
قدنا مسافة كم جنوب جبل "شالى" الرابض فى وسط الواحة حتى وصلنا الى بداية الطريق الواصل بين سيوة ومطروح حيث يقع جبل الموتى ... وهو ليس جبلاً حقيقياً من الناحية الجغرافية ... ولكن مجرد هضبة عالية يتوسطها شكل مخروطى صخرى ... يحتوى فى باطنه على مقابر عديدة تظهر فتحاتها كأفواه الآبار... وجدنا الزحام شديد عند سفحه عكس ما كان بالأمس وقت دخولنا الى سيوة ... العديد من السيارات والأتوبيسات المحملة بالسياح والمصريين على حد سواء ... أدركت أن أعداداً كبيرة من الزائرين قد وفدت الى الواحة ما بين ليلة أمس وصباح اليوم ... تماما كما توقع "سيد" ... موسم
كان الأمن متواجد بشكل مكثف ... سألنى أحد الظباط قبل صعودنا عن جنسية رفيقينا واسم الفندق الذى نقيم فيه ... ركنا الدراجات فى ظل نخلة عند سفح الجبل وارتقينا بضع درجات حتى مكتب التذاكر على رأس طريق الصعود ... يبدأ هذا الطريق ببضع درجات حجرية تختفى تدريجياً لتجد نفسك تنتقى مواضع قدميك على الصخور كيفما اتفق متفادياً السقوط فى الفتحات الواسعة المنتشرة فى الأرض الصخرية والتى تمثل فتحات المقابر ... بشكل ما تبدو هذه الفتحات كأفواه مفتوحة لتبتلع أجساد الموتى
فى منصف الطريق الى القمة يوجد "كوخ" صغير من جريد النخل مفروش بالحصير تم بناؤه كاستراحة للزائرين من قيظ النهار ... جلسنا هناك بضع دقائق احتماءا من الشمس ثم استكملنا طريقنا ونحن نلتقط لبعضنا الصور التى تبدو الواحة الراقدة تحتنا فى خلفيتها
وصلنا الى أعلى نقطة فى الجبل ... من بعيد والى الغرب نرى "شالى" وجبل "دكرور" على يمينه ومن حولهما مبانى الواحة القديمة الطينية ومبانيها الحديثة الاسمنتية ... طرقاتها الترابية التى تحتويها البساتين فتخفيها عن العيون ... والى الشرق نرى أميالاً من أشجار النخيل تمتد حتى الصحراء كبحر أخضر مترامى الأطراف
فى طريق الهبوط دعانا أحد الأدلة لمشاهدة مقبرة فرعونية تحتل أحد الفتحات الفمية اياها ... فتح لنا الدليل باب المقبرة الحديدى – طبعاً هو باب حديث وضع للحفاظ على المقبرة من عبث العابثين – فدخلنا الى ممر ضيق قصير فى نهايته حجرة فارغة صغبرة ترتفع عن الأرض بمقدار طول انسان تقريباً بحيث تصير موازية لرؤوسنا تقريباً ... وعلى الجانبين فتحات مربعة لا تتعدى متر فى نصف المتر تبدو مثل فتحات التهوية لكن وراءها مساحة بحجم حجرة أخرى طولية تصل بين هذه الفتحات جميعاً والحجرة الأولى ... على الجدران وعلى السقف الذى لا يفصله عن رؤوسنا سوى سنتيمترات قليلة نقوش فرعونية دقيقة مازالت محتفظة بألوانها رغم مرور آلاف السنين ... لم اتحمل الجو الخانق داخل المقبرة فخرجت لتتلقفنى الشمس الحارقة فجلست أحتمى بضل بعد الصخور البارزة من جسد الجبل حتى ينتهى الايطاليان من جلسة دراسة الدليل السياحى فى ايديهما داخل المقبرة ... كنت أعرف بوجود مومياء محفوظة فى أحدى المقابر هنا ايضاً لكن حرارة الشمس وتعب الصعود والهبوط على الجبل أفقدانى الرغبة فى رؤيتها
وصلنا الى السفح مرة أخرى فأخذنا الدراجات وانطلقنا ... سألنا فى الطريق عن الطريق الى "عين كليوباترا" فقيل لنا انها على بعد حوالى 4 كيلومترات من السوق ... رجعنا الى السوق مرة أخرى واتخذنا الطريق الى العين ... طريق ترابى غير ممهد ... على الجانبين وحتى منتصفه تقريباً لا يوجد سوى بيوت أهل سيوة التى هى عبارة عن طابق واحد أرضى مربع ببوابة حديدية ... يقابلنا فى الطريق أهل سيوة بملابسهم المميزة ... الرجال يرتدون جلاليب هى بيضاء غالباً ورمادية أحيانا وتحتها سروال من نفس لون الجلباب ... بعضهم يرتدى صديرية سوداء أو بنية اللون فوق الجلباب كذلك ... ويغلو رؤوسهم العقال البدوى بمربعاته الحمراء أو السوداء ... يطلقون عليه "حمودى" ... تذكرت وأنا أنظر اليهم مقولة احدى اليونانيات بالأمس انها لاحظت ان الرجال هنا يتمتعون بوجوه جميلة ... لم أفهمها وقتها ... ثم حين نظرت الى وجههم أدركت ما تعنيه ... فما يعرفه المصريين بالجمال وهو غالباً ان تكون البشرة بيضاء والعيون ملونة والشعر أشقر يختلف عن معنى الجمال الحقيقى ... فالجمال الحقيقى للوجوه بالذات يكمن فى الجمال التشريحى من حيث عرض الفك وشكل العينين وانتظام الأسنان واتساع الجبهة ... والسيويون يتمتعون بأوجه طويلة ذات فك عريض وأنف مستقيمة تتناسب وحجم الوجه تظلل شفاه صارمة تخفى أسنان بيضاء مصفوفة بانتظام ... وعيون حادة ثاقبة تلمع بذكاء وتظللها أهداب طويلة كثيفة سوداء ... كأنك ترى فراعنة حقيقيين كما جاء وصفهم فى الكتب ...تعجبت كثيراً حين فكرت فى هذا المفهوم للجمال ... فكرت فى سيدنا يوسف عليه السلام وتسألت بينى وبين نفسى كيف كان شكله وهو من أوتى نصف الجمال؟ سبحان الله الذى صور فأبدع ولكن الناس تشوهت نظرتهم الى الجمال واختلفت مقاييسهم حتى صار الجمال ينحصر فى الألوان! أما النساء فقليلاً ما يظهرون فى الطرقات كما هى عادة أهل الواحة ... فأن وجدوا فلا ترى منهم شىء حيث يرتدون عباءات طويلة – رمادية غالباً – ويغطون وجوههم تماماً بنقاب أسود يخفى حتى العينين
أما الأطفال فالأولاد منهم يرتدون ثياباً مشابهة للرجال ... لكن الفتيات يرتدين فساتين ملونة بألوان زاهية مثل الأصفر والبمبى والبنفسجى وتحتها سراويل قطنية بألوان مختلفة... يربطون شعورهم فى جدائل طويلة بأشرطة ملونة ... بشكل أو بأخر هم كغيرهم من بنات القرى فى محافظات مصر المختلفة ... لكنهم كانوا جميعا يضعون الحناء على ايديهم ... يزينزن بها الأكف ويصبغون بها الأظافر ... عرفت قبلها من "لورا" أنها من مظاهر الاحتفال بالعيد عندهم
بعد فترة اختفت البيوت من حولنا تماماً وصرنا لا نرى سوى أشجار النخيل الكثيفة على الجانبين ... كنا نتوقف من حين الى آخر نلتقط أنفاسنا ونحتمى بظلها من لسعة حر الظهيرة ... مر بنا "سليمان" يقود سيارته ومعه بعض السياح فاطلق نفير سيارته ورفع يده محيياُ بابتسامة فرددنا عليه بمثلها
وصلنا الى العين أخيرا بعد قيادة استمرت حوالى نصف الساعة فى هذه اللهيب فوددت لو ارتميت فى المياه بثيابى لأطفىء هذه النار التى تشوى وجهى ... كان المكان مزدحما بالناس من جميع الجنسيات ... والبعض يرتدون ملابس السباحة ويلهون فى المياه ذات اللون الفيروزى العجيب ... فقاقيع الهواء تخرج من أكثر من موقع فى الحوض الواسع دالة على مصدر خروج المياه من الأرض ... كان هناك مقهى يقف مقابلاً للعين ... مبنى من دور واحد مصنوع من جذوع النخيل والجريد ... مقسم بالأحجار الى "جلسات" أرضها مفروشة بالكليم والوسائد والطاولات الخشبية القصيرة – ما يعرف فى القرى بال"طبلية" – وبعض الكراسى المصنوعة من الجريد ... تركنا دراجاتنا بالخارج و تفرقنا بين الجلوس على الأرض استناداً الى الوسائد وبين الكراسى ... طلبنا أكواب الليمون البارد فجأتنا "شوبات" كبيرة من العصير المضاف اليه النعناع ... ليس هناك أمتع من الجلوس على الأرض وشرب الليمون البارد فى الظل بعد القيادة فى عز حر الظهيرة
قضينا فى مجلسنا هذا حوالى نصف ساعة ثم استكملنا الطريق اتجاها الى معبد آمون ... نفس الطريق الترابى يمتد بنا بين البساتين ... نتوقف فى الطريق فنتذوق البلح الأصفر "المستوى" المتدلى من أفرع النخيل القريبة من الأرض ... المتعارف عليه هناك ان عابر السبيل يأكل ما شاء ولكن لا يجمع الثمار – مش تيك أواى يعنى
وصلنا الى معبد آمون ... أو ما بقى منه ... يسمونه ايضاً معبد "أم عبيدة" ... جزء صغير من جدار حائل اللون عليه بعض النقوش الفرعونية وقف صامداً وسط دائرة من الكتل الحجرية الضخمة المبعثرة ... معبد آمون الذى تم بنائه فى القرن الرابع قبل الميلاد وظل صامداً ضد عوامل الزمن ... تعرض لزلزال شديد عام 1811 دمر جزء منه ... حتى دمرته عوامل البشر تماماً قرب عام 1890 بيد مأمور سيوة ويدعى محمود عزمى المشهور فى التاريخ بفعلته الخرقاء من تفخيخ المعبد بالبارود وهدمه لاستخدام أحجاره فى بناء مركز الشرطة وبيت له – للمأمور!
استكملنا الطريق لبضع دقائق فوجدنا أنفسنا أمام بناء ضخم يقع فوق صخرة عالية ... هو "معبد التنبؤات" ... ما يعرف بال"أوركل" ... وهذه التسمية جاءت من الحادثة المشهورة عندما زاره الإسكندر الأكبر طلباً لنبوؤة حول مستقبل حملاته العسكرية ... والمعبد محتفظ بالكثير من تكوينه الخارجى ... وتستطيع ان ترى من فوقه الواحة كلها وغابات النخيل المحيطة بها فى مشهد رائع ... هذا المعبد كان مخصصاً لعبادة آمون وفيه قدس الأقداس ... وهى القاعة التى تم فيها تتويج الإسكندر ابناً لآمون ... وهذا المعبد مع معبد آمون يشكلان معاً مجمع كبير حيث وجد العلماء طريقاً واصلاً بين المعبدين وبين معبد ثالث يقع فى منتصف الطريق بينهما ... والمنطقة كلها تدعى "أجورمى" ومعروفة لدى السيويو بهذا الاسم
كنا الوحيدين تقريباً فى المعبد باستثناء عائلة مصرية أعجبتنى جداً ... فالأب رجل كبير فى العقد السادس ... جاء مع ابنه الشاب وزوجته التى تقاربه فى العمر وتحمل أطناناً من وزنها الزائد ... ومع ذلك فهم يتسلقون الصخور والدرجات مع مشقتها وثقلهم كأنهم فى العشرينات من العمر ... كانوا يتبرعون بشرح المكان لنا باعتبار ان الرجل يزور المكان للمرة الثانية ... من الغريب ان تجد أسرة مصرية كاملة تهتم بالذهاب إلى مثل هذه الأماكن ... ومن الأغرب بالتأكيد أن تكون أسرة من الجيل السابق!!
مع انتهاء جولتنا فى منطقة أجورمى اتخذنا طريقاً مختلفاً للعودة إلى الواحة حيث اننى علمت من عامل الكافيتريا عند عين كليوباترا أن هناك طريقاً آخر ممهد وأكثرسهولة يبدأ من أغورمى وينتهى إلى منتصف الواحة ... كان النهار قد انتصف وحان وقت الطعام ... انحرفنا فى طريق ترابى جانبى يمر بين ترعة ضيقة وأحد الحقول ... تركنا الدراجات عند طرف الحقل وتوغلنا على الأقدام بين الأشجار والنخيل حتى وصلنا إلى بقعة بها العديد من القطع الخشبية المقطوعة من جذوع النخيل تظلها نخلة عالية تمتلىء بأسبطة البلح الأحمر بلونه القانى .... اتخذ كل منا قطعة وجلس عليها فكونا دائرة صغيرة فى وسطها وعلى بقية القطع الخشبية وضعنا علب الجبن والخبز وكيس الفاكهة ... وأخرج "ميكيل" علبة التونة وفتاحة صغيرة – نسينا ان نشترى علب التونة سهلة الفتح – ودخل فى معركة فردية لفتحها استغرقت حوالى ربع الساعة
لاحظنا تجمع الأطفال الصغار حولنا ... بنات أولاً ثم لحقهم أولاد ... أعمارهم تتراوح بين 6 الى 10 سنوات تقريباً ... بملابس البنات الملونة الزاهية و جلاليب الأولاد التى كانت بيضاء يوماً ما قبل ان يلوثها الطين والتراب مع حركتهم النشطة التى لا تكل ... وقفوا بعيداً عنا ... حافظوا دائماً على مسافة لا تقل عن 100 متر بينهم وبيننا وان ظلوا يتابعونا فى شغف .... نادهم "ميكيل" فتجرأوا قليلاً وسألوه من بعيد "واتس يور نايم؟" ... بلكنة غريبة هى تحوير من اللكنة المصرية اياها التى تجعل الذاء زاى ... وان خرجت جميع الحوف والتركيبات اللغوية سليمة تماماً كما هو متوقع من ابناء قوم يعتمدون فى اقتصادهم اعتمادا أساسيا على السياحة فتجدهم يتعلمون اللغات عن طريق السمع فقط منذ نعومة أظافرهم
حاول "ميكيل" ان "يعزم" عليهم ببعض قطع البسكوت فرفضوا رفضاً باتاً وسمعت كبرى البنات تنهر الصغار بكلمات لم أميز منها سوى كلمة "صدقة" ... هم لا يأخذون الطعام أبداً من الغرباء ويعتبرونها صدقة يترفعون عنها بإباء أصحاب الأرض ... عرفت بعد ذلك أن الأطفال هناك يحبون الأقلام ويقبلونها كهدايا من الغرباء ... عادة تعودوا عليها من أوائل الزائرين الأجانب الذين ارادوا ان يعطوا الأطفال شيئا مفيداً ... عرفت وقتها لم كان هؤلاء الأطفال الذين لا يتعدون السادسة من عمرهم والذين وقفت أمام منزلهم للراحة فى طريقنا إلى جبل الموتى كانوا يسألوننى بألحاح "بن .. بن؟" ... لم أفهم ما حاجة من فى مثل عمرهم الى قلم؟!
شيئاً فشيئاً تجرأت مجموعة الأطفال فتقموا منا وأخذوا يتبادلون معنا الحديث بالانجليزية ... عرفونا بأسمائهم وسألونا عن جنسياتنا ومن أين آتينا ... سألنا الأولاد ان كانوا يستطيعون تسلق النخل وجمع البلح فأجابوا بالايجاب ... وبدأ أحدهم فى تسلق جذع النخلة القريبة كقرد صغير حتى صار فى أعلاها فى ظرف دقائق معدودة ... ووقف بوزنه الخفيف وقدمه الصغيرة على أحد الأفرع الخضراء الممتدة من قلب النخلة ووضع طرف فانلته الحمراء فى فمه ليصنع منها جراباً آخذ يجمع فيه البلح الرطب ثم أمسك بين يديه بفرع آخر يتدلى على ارتفاع متوسط من الأرض فانزلق عليه حتى نهايته خاتماً بقفزة رشيقة لامس بها الأرض ... هرع الينا يصب البلح فى أحد أكياسنا ثم عاد مسرعاً ليجلس فى الطرف مع أصحابه كأن شيئاً لم يكن ... لم يسمح لنا حتى بشكره أو مشاركته الطعام ... انهينا غذائنا ولممنا ما بقى منه ثم اتخذنا طريقنا الى طرف الحقل حيث الدراجات وقد تحركت القبيلة الصغيرة من الأطفال لوداعنا ... انطلقنا وسط تحياتهم واشارات وداعهم من ورائنا ... ننحرف عن الطريق المجاور للترعة الى الطريق الرئيسى المؤدى الى وسط الواحة مرة آخرى
مضت 15 دقيقة تقريباً وتوقفت كل السيارات بعد ان "غرزت" واحدة منهم فى الرمال ... نزل جميع السائقين يحفرون تحتها لاستخراجها من الرمال ... بعد فترة تحركت قليلاً وهبطت غرد قريب ثم ما لبثت ان توقفت مطلقة دخان أسود كثيف من "الشكمان" ... نزل بقية الرجال من أجل اصلاحها فى حين بقينا نحن على قمة الغرد ... تفرق الناس كل مجموعة من اثنان أو ثلاثة يتحدثون معاً حتى عاد السائقون وقد أصلحوا السيارة ... استغرقت هذه العملية حوالى 20 دقيقة احترقنا فيها بشمس الصحراء الملتهبة
بدأت القافلة فى التحرك مرة أخرى وكان "ميكيل" قد صعد فوق سيارة المصرى بجوار الولد اياه ... توقفنا عند مدخل الواحة حتى ينزل هو والولد من فوق الشبكة حتى لا نتعرض للمخالفة القانونية. لم تمض 5 دقائق حتى كنا فى منتصف السوق بالواحة ... جاءنا "سيد" فأخبرنا ان الرحلة قد انتهت وأن المجموعة اليونانية ستذهب بعد ذلك الى منطقة تدعى "أبو شروف" 30 كم خارج الواحة ... كنا اكتفينا من الصحراء ونريد ان نأخذ "دش" ضرورى للتخلص من الرمال التى تملأ ملابسنا وتلتصق بجلدنا وحتى نشعر بها فى أفواهنا ... كما اننا بحاجة ماسة للراحة قبل القيام بأى خطوة أخرى ... قلنا ل"سيد" اننا نفضل الذهاب الى أى فندق للراحة أولاً ثم نقوم بزيارات المشاهد السياحية فى البلد ... نقدناه أجر الرحلة وأخذنا إلى فندق اسمه "بالم ترى" ... لم نجد غرفة شاغرة كما ان الفندق نفسه لم يعجبنا ... كان رفيقانا الايطاليان قد قررا السفر هذه الليلة ليصلا القاهرة ومنها الى "سانت كاترين" لارتباطهم بجدول مواعيد ضيق ... بالتالى كانت المشكلة عندنا نحن فى ايجار غرفة لقضاء الليلة ... آخذنا "سيد" الى فندق آخر قريب اسمه "كيلانى" هو عبارة عن مبنى جديد يشبه عمارات شارع "فيصل" فى الهرم بلونه البمبى الخالى من الذوق ... صعدنا نتفقد الغرفة فوجدناها واسعة نظيفة تتسع لسريرين ودولاب ومائدة مع اتساع فى المساحات وحمام نظيف متوسط الحجم ... وافقنا على الايجار ودفعنا 50 جنيه ثمن الليلة ... يا بلاش!
افترقنا عن الايطاليان على ان نلتقى أمام الفندق بعد ساعة لنبدأ رحلتنا ... آخذت "دش" سريع وغيرت ملابسى فشعرت بالنشاط والحيوية من جديد ... بعد ساعة كلمتنى "سيمونا" تخبرنى بقدومهما الى حجرتنا من أجل الاغتسال ... بعدها بربع ساعة كنا فى الشارع ... كانت "لورا" قد منحتهما دراجتين فذهبنا نؤجر لنا دراجتين ايضا من المحل المقابل للفندق وتركناهما فى السوبرماركت تحت الفندق لشراء بعض الأطعمة الخفيفة للغذاء ... استعجبت لرفضهما أن نشارك فى ثمن الطعام واصرارهما على "العزومة" بطريقة المصريين ... يبدو ان ما يحكى عن تشابه كل شعوب البحر المتوسط صحيح ... فان صح فنحن نشترك ايضاً فى الدم الحامى والضوضاء والصوت العالى
بدأنا رحلتنا على الدراجات ... درجات عريضة من النوع الجبلى التى أكرهها ... فى صغرى كنت أحب الدراجات الصينى الخفيفة لخفتها وسرعتها ... لكن الدراجات من هذا النوع الأخير لا تتحمل طرق الواحة الغير ممهدة
قدنا مسافة كم جنوب جبل "شالى" الرابض فى وسط الواحة حتى وصلنا الى بداية الطريق الواصل بين سيوة ومطروح حيث يقع جبل الموتى ... وهو ليس جبلاً حقيقياً من الناحية الجغرافية ... ولكن مجرد هضبة عالية يتوسطها شكل مخروطى صخرى ... يحتوى فى باطنه على مقابر عديدة تظهر فتحاتها كأفواه الآبار... وجدنا الزحام شديد عند سفحه عكس ما كان بالأمس وقت دخولنا الى سيوة ... العديد من السيارات والأتوبيسات المحملة بالسياح والمصريين على حد سواء ... أدركت أن أعداداً كبيرة من الزائرين قد وفدت الى الواحة ما بين ليلة أمس وصباح اليوم ... تماما كما توقع "سيد" ... موسم
كان الأمن متواجد بشكل مكثف ... سألنى أحد الظباط قبل صعودنا عن جنسية رفيقينا واسم الفندق الذى نقيم فيه ... ركنا الدراجات فى ظل نخلة عند سفح الجبل وارتقينا بضع درجات حتى مكتب التذاكر على رأس طريق الصعود ... يبدأ هذا الطريق ببضع درجات حجرية تختفى تدريجياً لتجد نفسك تنتقى مواضع قدميك على الصخور كيفما اتفق متفادياً السقوط فى الفتحات الواسعة المنتشرة فى الأرض الصخرية والتى تمثل فتحات المقابر ... بشكل ما تبدو هذه الفتحات كأفواه مفتوحة لتبتلع أجساد الموتى
فى منصف الطريق الى القمة يوجد "كوخ" صغير من جريد النخل مفروش بالحصير تم بناؤه كاستراحة للزائرين من قيظ النهار ... جلسنا هناك بضع دقائق احتماءا من الشمس ثم استكملنا طريقنا ونحن نلتقط لبعضنا الصور التى تبدو الواحة الراقدة تحتنا فى خلفيتها
وصلنا الى أعلى نقطة فى الجبل ... من بعيد والى الغرب نرى "شالى" وجبل "دكرور" على يمينه ومن حولهما مبانى الواحة القديمة الطينية ومبانيها الحديثة الاسمنتية ... طرقاتها الترابية التى تحتويها البساتين فتخفيها عن العيون ... والى الشرق نرى أميالاً من أشجار النخيل تمتد حتى الصحراء كبحر أخضر مترامى الأطراف
فى طريق الهبوط دعانا أحد الأدلة لمشاهدة مقبرة فرعونية تحتل أحد الفتحات الفمية اياها ... فتح لنا الدليل باب المقبرة الحديدى – طبعاً هو باب حديث وضع للحفاظ على المقبرة من عبث العابثين – فدخلنا الى ممر ضيق قصير فى نهايته حجرة فارغة صغبرة ترتفع عن الأرض بمقدار طول انسان تقريباً بحيث تصير موازية لرؤوسنا تقريباً ... وعلى الجانبين فتحات مربعة لا تتعدى متر فى نصف المتر تبدو مثل فتحات التهوية لكن وراءها مساحة بحجم حجرة أخرى طولية تصل بين هذه الفتحات جميعاً والحجرة الأولى ... على الجدران وعلى السقف الذى لا يفصله عن رؤوسنا سوى سنتيمترات قليلة نقوش فرعونية دقيقة مازالت محتفظة بألوانها رغم مرور آلاف السنين ... لم اتحمل الجو الخانق داخل المقبرة فخرجت لتتلقفنى الشمس الحارقة فجلست أحتمى بضل بعد الصخور البارزة من جسد الجبل حتى ينتهى الايطاليان من جلسة دراسة الدليل السياحى فى ايديهما داخل المقبرة ... كنت أعرف بوجود مومياء محفوظة فى أحدى المقابر هنا ايضاً لكن حرارة الشمس وتعب الصعود والهبوط على الجبل أفقدانى الرغبة فى رؤيتها
وصلنا الى السفح مرة أخرى فأخذنا الدراجات وانطلقنا ... سألنا فى الطريق عن الطريق الى "عين كليوباترا" فقيل لنا انها على بعد حوالى 4 كيلومترات من السوق ... رجعنا الى السوق مرة أخرى واتخذنا الطريق الى العين ... طريق ترابى غير ممهد ... على الجانبين وحتى منتصفه تقريباً لا يوجد سوى بيوت أهل سيوة التى هى عبارة عن طابق واحد أرضى مربع ببوابة حديدية ... يقابلنا فى الطريق أهل سيوة بملابسهم المميزة ... الرجال يرتدون جلاليب هى بيضاء غالباً ورمادية أحيانا وتحتها سروال من نفس لون الجلباب ... بعضهم يرتدى صديرية سوداء أو بنية اللون فوق الجلباب كذلك ... ويغلو رؤوسهم العقال البدوى بمربعاته الحمراء أو السوداء ... يطلقون عليه "حمودى" ... تذكرت وأنا أنظر اليهم مقولة احدى اليونانيات بالأمس انها لاحظت ان الرجال هنا يتمتعون بوجوه جميلة ... لم أفهمها وقتها ... ثم حين نظرت الى وجههم أدركت ما تعنيه ... فما يعرفه المصريين بالجمال وهو غالباً ان تكون البشرة بيضاء والعيون ملونة والشعر أشقر يختلف عن معنى الجمال الحقيقى ... فالجمال الحقيقى للوجوه بالذات يكمن فى الجمال التشريحى من حيث عرض الفك وشكل العينين وانتظام الأسنان واتساع الجبهة ... والسيويون يتمتعون بأوجه طويلة ذات فك عريض وأنف مستقيمة تتناسب وحجم الوجه تظلل شفاه صارمة تخفى أسنان بيضاء مصفوفة بانتظام ... وعيون حادة ثاقبة تلمع بذكاء وتظللها أهداب طويلة كثيفة سوداء ... كأنك ترى فراعنة حقيقيين كما جاء وصفهم فى الكتب ...تعجبت كثيراً حين فكرت فى هذا المفهوم للجمال ... فكرت فى سيدنا يوسف عليه السلام وتسألت بينى وبين نفسى كيف كان شكله وهو من أوتى نصف الجمال؟ سبحان الله الذى صور فأبدع ولكن الناس تشوهت نظرتهم الى الجمال واختلفت مقاييسهم حتى صار الجمال ينحصر فى الألوان! أما النساء فقليلاً ما يظهرون فى الطرقات كما هى عادة أهل الواحة ... فأن وجدوا فلا ترى منهم شىء حيث يرتدون عباءات طويلة – رمادية غالباً – ويغطون وجوههم تماماً بنقاب أسود يخفى حتى العينين
أما الأطفال فالأولاد منهم يرتدون ثياباً مشابهة للرجال ... لكن الفتيات يرتدين فساتين ملونة بألوان زاهية مثل الأصفر والبمبى والبنفسجى وتحتها سراويل قطنية بألوان مختلفة... يربطون شعورهم فى جدائل طويلة بأشرطة ملونة ... بشكل أو بأخر هم كغيرهم من بنات القرى فى محافظات مصر المختلفة ... لكنهم كانوا جميعا يضعون الحناء على ايديهم ... يزينزن بها الأكف ويصبغون بها الأظافر ... عرفت قبلها من "لورا" أنها من مظاهر الاحتفال بالعيد عندهم
بعد فترة اختفت البيوت من حولنا تماماً وصرنا لا نرى سوى أشجار النخيل الكثيفة على الجانبين ... كنا نتوقف من حين الى آخر نلتقط أنفاسنا ونحتمى بظلها من لسعة حر الظهيرة ... مر بنا "سليمان" يقود سيارته ومعه بعض السياح فاطلق نفير سيارته ورفع يده محيياُ بابتسامة فرددنا عليه بمثلها
وصلنا الى العين أخيرا بعد قيادة استمرت حوالى نصف الساعة فى هذه اللهيب فوددت لو ارتميت فى المياه بثيابى لأطفىء هذه النار التى تشوى وجهى ... كان المكان مزدحما بالناس من جميع الجنسيات ... والبعض يرتدون ملابس السباحة ويلهون فى المياه ذات اللون الفيروزى العجيب ... فقاقيع الهواء تخرج من أكثر من موقع فى الحوض الواسع دالة على مصدر خروج المياه من الأرض ... كان هناك مقهى يقف مقابلاً للعين ... مبنى من دور واحد مصنوع من جذوع النخيل والجريد ... مقسم بالأحجار الى "جلسات" أرضها مفروشة بالكليم والوسائد والطاولات الخشبية القصيرة – ما يعرف فى القرى بال"طبلية" – وبعض الكراسى المصنوعة من الجريد ... تركنا دراجاتنا بالخارج و تفرقنا بين الجلوس على الأرض استناداً الى الوسائد وبين الكراسى ... طلبنا أكواب الليمون البارد فجأتنا "شوبات" كبيرة من العصير المضاف اليه النعناع ... ليس هناك أمتع من الجلوس على الأرض وشرب الليمون البارد فى الظل بعد القيادة فى عز حر الظهيرة
قضينا فى مجلسنا هذا حوالى نصف ساعة ثم استكملنا الطريق اتجاها الى معبد آمون ... نفس الطريق الترابى يمتد بنا بين البساتين ... نتوقف فى الطريق فنتذوق البلح الأصفر "المستوى" المتدلى من أفرع النخيل القريبة من الأرض ... المتعارف عليه هناك ان عابر السبيل يأكل ما شاء ولكن لا يجمع الثمار – مش تيك أواى يعنى
وصلنا الى معبد آمون ... أو ما بقى منه ... يسمونه ايضاً معبد "أم عبيدة" ... جزء صغير من جدار حائل اللون عليه بعض النقوش الفرعونية وقف صامداً وسط دائرة من الكتل الحجرية الضخمة المبعثرة ... معبد آمون الذى تم بنائه فى القرن الرابع قبل الميلاد وظل صامداً ضد عوامل الزمن ... تعرض لزلزال شديد عام 1811 دمر جزء منه ... حتى دمرته عوامل البشر تماماً قرب عام 1890 بيد مأمور سيوة ويدعى محمود عزمى المشهور فى التاريخ بفعلته الخرقاء من تفخيخ المعبد بالبارود وهدمه لاستخدام أحجاره فى بناء مركز الشرطة وبيت له – للمأمور!
استكملنا الطريق لبضع دقائق فوجدنا أنفسنا أمام بناء ضخم يقع فوق صخرة عالية ... هو "معبد التنبؤات" ... ما يعرف بال"أوركل" ... وهذه التسمية جاءت من الحادثة المشهورة عندما زاره الإسكندر الأكبر طلباً لنبوؤة حول مستقبل حملاته العسكرية ... والمعبد محتفظ بالكثير من تكوينه الخارجى ... وتستطيع ان ترى من فوقه الواحة كلها وغابات النخيل المحيطة بها فى مشهد رائع ... هذا المعبد كان مخصصاً لعبادة آمون وفيه قدس الأقداس ... وهى القاعة التى تم فيها تتويج الإسكندر ابناً لآمون ... وهذا المعبد مع معبد آمون يشكلان معاً مجمع كبير حيث وجد العلماء طريقاً واصلاً بين المعبدين وبين معبد ثالث يقع فى منتصف الطريق بينهما ... والمنطقة كلها تدعى "أجورمى" ومعروفة لدى السيويو بهذا الاسم
كنا الوحيدين تقريباً فى المعبد باستثناء عائلة مصرية أعجبتنى جداً ... فالأب رجل كبير فى العقد السادس ... جاء مع ابنه الشاب وزوجته التى تقاربه فى العمر وتحمل أطناناً من وزنها الزائد ... ومع ذلك فهم يتسلقون الصخور والدرجات مع مشقتها وثقلهم كأنهم فى العشرينات من العمر ... كانوا يتبرعون بشرح المكان لنا باعتبار ان الرجل يزور المكان للمرة الثانية ... من الغريب ان تجد أسرة مصرية كاملة تهتم بالذهاب إلى مثل هذه الأماكن ... ومن الأغرب بالتأكيد أن تكون أسرة من الجيل السابق!!
مع انتهاء جولتنا فى منطقة أجورمى اتخذنا طريقاً مختلفاً للعودة إلى الواحة حيث اننى علمت من عامل الكافيتريا عند عين كليوباترا أن هناك طريقاً آخر ممهد وأكثرسهولة يبدأ من أغورمى وينتهى إلى منتصف الواحة ... كان النهار قد انتصف وحان وقت الطعام ... انحرفنا فى طريق ترابى جانبى يمر بين ترعة ضيقة وأحد الحقول ... تركنا الدراجات عند طرف الحقل وتوغلنا على الأقدام بين الأشجار والنخيل حتى وصلنا إلى بقعة بها العديد من القطع الخشبية المقطوعة من جذوع النخيل تظلها نخلة عالية تمتلىء بأسبطة البلح الأحمر بلونه القانى .... اتخذ كل منا قطعة وجلس عليها فكونا دائرة صغيرة فى وسطها وعلى بقية القطع الخشبية وضعنا علب الجبن والخبز وكيس الفاكهة ... وأخرج "ميكيل" علبة التونة وفتاحة صغيرة – نسينا ان نشترى علب التونة سهلة الفتح – ودخل فى معركة فردية لفتحها استغرقت حوالى ربع الساعة
لاحظنا تجمع الأطفال الصغار حولنا ... بنات أولاً ثم لحقهم أولاد ... أعمارهم تتراوح بين 6 الى 10 سنوات تقريباً ... بملابس البنات الملونة الزاهية و جلاليب الأولاد التى كانت بيضاء يوماً ما قبل ان يلوثها الطين والتراب مع حركتهم النشطة التى لا تكل ... وقفوا بعيداً عنا ... حافظوا دائماً على مسافة لا تقل عن 100 متر بينهم وبيننا وان ظلوا يتابعونا فى شغف .... نادهم "ميكيل" فتجرأوا قليلاً وسألوه من بعيد "واتس يور نايم؟" ... بلكنة غريبة هى تحوير من اللكنة المصرية اياها التى تجعل الذاء زاى ... وان خرجت جميع الحوف والتركيبات اللغوية سليمة تماماً كما هو متوقع من ابناء قوم يعتمدون فى اقتصادهم اعتمادا أساسيا على السياحة فتجدهم يتعلمون اللغات عن طريق السمع فقط منذ نعومة أظافرهم
حاول "ميكيل" ان "يعزم" عليهم ببعض قطع البسكوت فرفضوا رفضاً باتاً وسمعت كبرى البنات تنهر الصغار بكلمات لم أميز منها سوى كلمة "صدقة" ... هم لا يأخذون الطعام أبداً من الغرباء ويعتبرونها صدقة يترفعون عنها بإباء أصحاب الأرض ... عرفت بعد ذلك أن الأطفال هناك يحبون الأقلام ويقبلونها كهدايا من الغرباء ... عادة تعودوا عليها من أوائل الزائرين الأجانب الذين ارادوا ان يعطوا الأطفال شيئا مفيداً ... عرفت وقتها لم كان هؤلاء الأطفال الذين لا يتعدون السادسة من عمرهم والذين وقفت أمام منزلهم للراحة فى طريقنا إلى جبل الموتى كانوا يسألوننى بألحاح "بن .. بن؟" ... لم أفهم ما حاجة من فى مثل عمرهم الى قلم؟!
شيئاً فشيئاً تجرأت مجموعة الأطفال فتقموا منا وأخذوا يتبادلون معنا الحديث بالانجليزية ... عرفونا بأسمائهم وسألونا عن جنسياتنا ومن أين آتينا ... سألنا الأولاد ان كانوا يستطيعون تسلق النخل وجمع البلح فأجابوا بالايجاب ... وبدأ أحدهم فى تسلق جذع النخلة القريبة كقرد صغير حتى صار فى أعلاها فى ظرف دقائق معدودة ... ووقف بوزنه الخفيف وقدمه الصغيرة على أحد الأفرع الخضراء الممتدة من قلب النخلة ووضع طرف فانلته الحمراء فى فمه ليصنع منها جراباً آخذ يجمع فيه البلح الرطب ثم أمسك بين يديه بفرع آخر يتدلى على ارتفاع متوسط من الأرض فانزلق عليه حتى نهايته خاتماً بقفزة رشيقة لامس بها الأرض ... هرع الينا يصب البلح فى أحد أكياسنا ثم عاد مسرعاً ليجلس فى الطرف مع أصحابه كأن شيئاً لم يكن ... لم يسمح لنا حتى بشكره أو مشاركته الطعام ... انهينا غذائنا ولممنا ما بقى منه ثم اتخذنا طريقنا الى طرف الحقل حيث الدراجات وقد تحركت القبيلة الصغيرة من الأطفال لوداعنا ... انطلقنا وسط تحياتهم واشارات وداعهم من ورائنا ... ننحرف عن الطريق المجاور للترعة الى الطريق الرئيسى المؤدى الى وسط الواحة مرة آخرى