Monday, October 29, 2007

سيوة ... واحة صحراوية على أرض مصرية - الجزء الثانى

انطلقت السيارات بنفس النظام الواحدة تتبع الأخرى وقد زاد عدد القافلة اثنان مع وجود السيارتان المصريتان ... كان ابن احدهما وهو طفل ضغير فى الثانية عشر من عمره قد صعد فوق شبكة السيارة واستقر متربعاً فوقها ومتشبثاً بأعمدتها جيداً فى حين انطلقت السيارة بسرعة هبوطاً وصعوداً ... لابد انه شعور رائع بالاثارة ان تكون على هذا الارتفاع والسيارة تهبط بك بزاوية حادة على منحدر الغرد ... سأل "ميكيل" سائق السيارة ان كان يستطيع ان يفعل مثله ويصعد فوق سطح سيارتنا فرفض السائق لأن الشبكة محملة بمعدات التخييم ... كما ان هذا ممنوع قانونياً واذا تم ضبطه ستسحب رخصة قيادته لمدة شهر مع الغرامة

مضت 15 دقيقة تقريباً وتوقفت كل السيارات بعد ان "غرزت" واحدة منهم فى الرمال ... نزل جميع السائقين يحفرون تحتها لاستخراجها من الرمال ... بعد فترة تحركت قليلاً وهبطت غرد قريب ثم ما لبثت ان توقفت مطلقة دخان أسود كثيف من "الشكمان" ... نزل بقية الرجال من أجل اصلاحها فى حين بقينا نحن على قمة الغرد ... تفرق الناس كل مجموعة من اثنان أو ثلاثة يتحدثون معاً حتى عاد السائقون وقد أصلحوا السيارة ... استغرقت هذه العملية حوالى 20 دقيقة احترقنا فيها بشمس الصحراء الملتهبة

بدأت القافلة فى التحرك مرة أخرى وكان "ميكيل" قد صعد فوق سيارة المصرى بجوار الولد اياه ... توقفنا عند مدخل الواحة حتى ينزل هو والولد من فوق الشبكة حتى لا نتعرض للمخالفة القانونية. لم تمض 5 دقائق حتى كنا فى منتصف السوق بالواحة ... جاءنا "سيد" فأخبرنا ان الرحلة قد انتهت وأن المجموعة اليونانية ستذهب بعد ذلك الى منطقة تدعى "أبو شروف" 30 كم خارج الواحة ... كنا اكتفينا من الصحراء ونريد ان نأخذ "دش" ضرورى للتخلص من الرمال التى تملأ ملابسنا وتلتصق بجلدنا وحتى نشعر بها فى أفواهنا ... كما اننا بحاجة ماسة للراحة قبل القيام بأى خطوة أخرى ... قلنا ل"سيد" اننا نفضل الذهاب الى أى فندق للراحة أولاً ثم نقوم بزيارات المشاهد السياحية فى البلد ... نقدناه أجر الرحلة وأخذنا إلى فندق اسمه "بالم ترى" ... لم نجد غرفة شاغرة كما ان الفندق نفسه لم يعجبنا ... كان رفيقانا الايطاليان قد قررا السفر هذه الليلة ليصلا القاهرة ومنها الى "سانت كاترين" لارتباطهم بجدول مواعيد ضيق ... بالتالى كانت المشكلة عندنا نحن فى ايجار غرفة لقضاء الليلة ... آخذنا "سيد" الى فندق آخر قريب اسمه "كيلانى" هو عبارة عن مبنى جديد يشبه عمارات شارع "فيصل" فى الهرم بلونه البمبى الخالى من الذوق ... صعدنا نتفقد الغرفة فوجدناها واسعة نظيفة تتسع لسريرين ودولاب ومائدة مع اتساع فى المساحات وحمام نظيف متوسط الحجم ... وافقنا على الايجار ودفعنا 50 جنيه ثمن الليلة ... يا بلاش!
افترقنا عن الايطاليان على ان نلتقى أمام الفندق بعد ساعة لنبدأ رحلتنا ... آخذت "دش" سريع وغيرت ملابسى فشعرت بالنشاط والحيوية من جديد ... بعد ساعة كلمتنى "سيمونا" تخبرنى بقدومهما الى حجرتنا من أجل الاغتسال ... بعدها بربع ساعة كنا فى الشارع ... كانت "لورا" قد منحتهما دراجتين فذهبنا نؤجر لنا دراجتين ايضا من المحل المقابل للفندق وتركناهما فى السوبرماركت تحت الفندق لشراء بعض الأطعمة الخفيفة للغذاء ... استعجبت لرفضهما أن نشارك فى ثمن الطعام واصرارهما على "العزومة" بطريقة المصريين ... يبدو ان ما يحكى عن تشابه كل شعوب البحر المتوسط صحيح ... فان صح فنحن نشترك ايضاً فى الدم الحامى والضوضاء والصوت العالى
بدأنا رحلتنا على الدراجات ... درجات عريضة من النوع الجبلى التى أكرهها ... فى صغرى كنت أحب الدراجات الصينى الخفيفة لخفتها وسرعتها ... لكن الدراجات من هذا النوع الأخير لا تتحمل طرق الواحة الغير ممهدة
قدنا مسافة كم جنوب جبل "شالى" الرابض فى وسط الواحة حتى وصلنا الى بداية الطريق الواصل بين سيوة ومطروح حيث يقع جبل الموتى ... وهو ليس جبلاً حقيقياً من الناحية الجغرافية ... ولكن مجرد هضبة عالية يتوسطها شكل مخروطى صخرى ... يحتوى فى باطنه على مقابر عديدة تظهر فتحاتها كأفواه الآبار... وجدنا الزحام شديد عند سفحه عكس ما كان بالأمس وقت دخولنا الى سيوة ... العديد من السيارات والأتوبيسات المحملة بالسياح والمصريين على حد سواء ... أدركت أن أعداداً كبيرة من الزائرين قد وفدت الى الواحة ما بين ليلة أمس وصباح اليوم ... تماما كما توقع "سيد" ... موسم
كان الأمن متواجد بشكل مكثف ... سألنى أحد الظباط قبل صعودنا عن جنسية رفيقينا واسم الفندق الذى نقيم فيه ... ركنا الدراجات فى ظل نخلة عند سفح الجبل وارتقينا بضع درجات حتى مكتب التذاكر على رأس طريق الصعود ... يبدأ هذا الطريق ببضع درجات حجرية تختفى تدريجياً لتجد نفسك تنتقى مواضع قدميك على الصخور كيفما اتفق متفادياً السقوط فى الفتحات الواسعة المنتشرة فى الأرض الصخرية والتى تمثل فتحات المقابر ... بشكل ما تبدو هذه الفتحات كأفواه مفتوحة لتبتلع أجساد الموتى
فى منصف الطريق الى القمة يوجد "كوخ" صغير من جريد النخل مفروش بالحصير تم بناؤه كاستراحة للزائرين من قيظ النهار ... جلسنا هناك بضع دقائق احتماءا من الشمس ثم استكملنا طريقنا ونحن نلتقط لبعضنا الصور التى تبدو الواحة الراقدة تحتنا فى خلفيتها
وصلنا الى أعلى نقطة فى الجبل ... من بعيد والى الغرب نرى "شالى" وجبل "دكرور" على يمينه ومن حولهما مبانى الواحة القديمة الطينية ومبانيها الحديثة الاسمنتية ... طرقاتها الترابية التى تحتويها البساتين فتخفيها عن العيون ... والى الشرق نرى أميالاً من أشجار النخيل تمتد حتى الصحراء كبحر أخضر مترامى الأطراف
فى طريق الهبوط دعانا أحد الأدلة لمشاهدة مقبرة فرعونية تحتل أحد الفتحات الفمية اياها ... فتح لنا الدليل باب المقبرة الحديدى – طبعاً هو باب حديث وضع للحفاظ على المقبرة من عبث العابثين – فدخلنا الى ممر ضيق قصير فى نهايته حجرة فارغة صغبرة ترتفع عن الأرض بمقدار طول انسان تقريباً بحيث تصير موازية لرؤوسنا تقريباً ... وعلى الجانبين فتحات مربعة لا تتعدى متر فى نصف المتر تبدو مثل فتحات التهوية لكن وراءها مساحة بحجم حجرة أخرى طولية تصل بين هذه الفتحات جميعاً والحجرة الأولى ... على الجدران وعلى السقف الذى لا يفصله عن رؤوسنا سوى سنتيمترات قليلة نقوش فرعونية دقيقة مازالت محتفظة بألوانها رغم مرور آلاف السنين ... لم اتحمل الجو الخانق داخل المقبرة فخرجت لتتلقفنى الشمس الحارقة فجلست أحتمى بضل بعد الصخور البارزة من جسد الجبل حتى ينتهى الايطاليان من جلسة دراسة الدليل السياحى فى ايديهما داخل المقبرة ... كنت أعرف بوجود مومياء محفوظة فى أحدى المقابر هنا ايضاً لكن حرارة الشمس وتعب الصعود والهبوط على الجبل أفقدانى الرغبة فى رؤيتها
وصلنا الى السفح مرة أخرى فأخذنا الدراجات وانطلقنا ... سألنا فى الطريق عن الطريق الى "عين كليوباترا" فقيل لنا انها على بعد حوالى 4 كيلومترات من السوق ... رجعنا الى السوق مرة أخرى واتخذنا الطريق الى العين ... طريق ترابى غير ممهد ... على الجانبين وحتى منتصفه تقريباً لا يوجد سوى بيوت أهل سيوة التى هى عبارة عن طابق واحد أرضى مربع ببوابة حديدية ... يقابلنا فى الطريق أهل سيوة بملابسهم المميزة ... الرجال يرتدون جلاليب هى بيضاء غالباً ورمادية أحيانا وتحتها سروال من نفس لون الجلباب ... بعضهم يرتدى صديرية سوداء أو بنية اللون فوق الجلباب كذلك ... ويغلو رؤوسهم العقال البدوى بمربعاته الحمراء أو السوداء ... يطلقون عليه "حمودى" ... تذكرت وأنا أنظر اليهم مقولة احدى اليونانيات بالأمس انها لاحظت ان الرجال هنا يتمتعون بوجوه جميلة ... لم أفهمها وقتها ... ثم حين نظرت الى وجههم أدركت ما تعنيه ... فما يعرفه المصريين بالجمال وهو غالباً ان تكون البشرة بيضاء والعيون ملونة والشعر أشقر يختلف عن معنى الجمال الحقيقى ... فالجمال الحقيقى للوجوه بالذات يكمن فى الجمال التشريحى من حيث عرض الفك وشكل العينين وانتظام الأسنان واتساع الجبهة ... والسيويون يتمتعون بأوجه طويلة ذات فك عريض وأنف مستقيمة تتناسب وحجم الوجه تظلل شفاه صارمة تخفى أسنان بيضاء مصفوفة بانتظام ... وعيون حادة ثاقبة تلمع بذكاء وتظللها أهداب طويلة كثيفة سوداء ... كأنك ترى فراعنة حقيقيين كما جاء وصفهم فى الكتب ...تعجبت كثيراً حين فكرت فى هذا المفهوم للجمال ... فكرت فى سيدنا يوسف عليه السلام وتسألت بينى وبين نفسى كيف كان شكله وهو من أوتى نصف الجمال؟ سبحان الله الذى صور فأبدع ولكن الناس تشوهت نظرتهم الى الجمال واختلفت مقاييسهم حتى صار الجمال ينحصر فى الألوان! أما النساء فقليلاً ما يظهرون فى الطرقات كما هى عادة أهل الواحة ... فأن وجدوا فلا ترى منهم شىء حيث يرتدون عباءات طويلة – رمادية غالباً – ويغطون وجوههم تماماً بنقاب أسود يخفى حتى العينين
أما الأطفال فالأولاد منهم يرتدون ثياباً مشابهة للرجال ... لكن الفتيات يرتدين فساتين ملونة بألوان زاهية مثل الأصفر والبمبى والبنفسجى وتحتها سراويل قطنية بألوان مختلفة... يربطون شعورهم فى جدائل طويلة بأشرطة ملونة ... بشكل أو بأخر هم كغيرهم من بنات القرى فى محافظات مصر المختلفة ... لكنهم كانوا جميعا يضعون الحناء على ايديهم ... يزينزن بها الأكف ويصبغون بها الأظافر ... عرفت قبلها من "لورا" أنها من مظاهر الاحتفال بالعيد عندهم

بعد فترة اختفت البيوت من حولنا تماماً وصرنا لا نرى سوى أشجار النخيل الكثيفة على الجانبين ... كنا نتوقف من حين الى آخر نلتقط أنفاسنا ونحتمى بظلها من لسعة حر الظهيرة ... مر بنا "سليمان" يقود سيارته ومعه بعض السياح فاطلق نفير سيارته ورفع يده محيياُ بابتسامة فرددنا عليه بمثلها

وصلنا الى العين أخيرا بعد قيادة استمرت حوالى نصف الساعة فى هذه اللهيب فوددت لو ارتميت فى المياه بثيابى لأطفىء هذه النار التى تشوى وجهى ... كان المكان مزدحما بالناس من جميع الجنسيات ... والبعض يرتدون ملابس السباحة ويلهون فى المياه ذات اللون الفيروزى العجيب ... فقاقيع الهواء تخرج من أكثر من موقع فى الحوض الواسع دالة على مصدر خروج المياه من الأرض ... كان هناك مقهى يقف مقابلاً للعين ... مبنى من دور واحد مصنوع من جذوع النخيل والجريد ... مقسم بالأحجار الى "جلسات" أرضها مفروشة بالكليم والوسائد والطاولات الخشبية القصيرة – ما يعرف فى القرى بال"طبلية" – وبعض الكراسى المصنوعة من الجريد ... تركنا دراجاتنا بالخارج و تفرقنا بين الجلوس على الأرض استناداً الى الوسائد وبين الكراسى ... طلبنا أكواب الليمون البارد فجأتنا "شوبات" كبيرة من العصير المضاف اليه النعناع ... ليس هناك أمتع من الجلوس على الأرض وشرب الليمون البارد فى الظل بعد القيادة فى عز حر الظهيرة

قضينا فى مجلسنا هذا حوالى نصف ساعة ثم استكملنا الطريق اتجاها الى معبد آمون ... نفس الطريق الترابى يمتد بنا بين البساتين ... نتوقف فى الطريق فنتذوق البلح الأصفر "المستوى" المتدلى من أفرع النخيل القريبة من الأرض ... المتعارف عليه هناك ان عابر السبيل يأكل ما شاء ولكن لا يجمع الثمار – مش تيك أواى يعنى
وصلنا الى معبد آمون ... أو ما بقى منه ... يسمونه ايضاً معبد "أم عبيدة" ... جزء صغير من جدار حائل اللون عليه بعض النقوش الفرعونية وقف صامداً وسط دائرة من الكتل الحجرية الضخمة المبعثرة ... معبد آمون الذى تم بنائه فى القرن الرابع قبل الميلاد وظل صامداً ضد عوامل الزمن ... تعرض لزلزال شديد عام 1811 دمر جزء منه ... حتى دمرته عوامل البشر تماماً قرب عام 1890 بيد مأمور سيوة ويدعى محمود عزمى المشهور فى التاريخ بفعلته الخرقاء من تفخيخ المعبد بالبارود وهدمه لاستخدام أحجاره فى بناء مركز الشرطة وبيت له – للمأمور!

استكملنا الطريق لبضع دقائق فوجدنا أنفسنا أمام بناء ضخم يقع فوق صخرة عالية ... هو "معبد التنبؤات" ... ما يعرف بال"أوركل" ... وهذه التسمية جاءت من الحادثة المشهورة عندما زاره الإسكندر الأكبر طلباً لنبوؤة حول مستقبل حملاته العسكرية ... والمعبد محتفظ بالكثير من تكوينه الخارجى ... وتستطيع ان ترى من فوقه الواحة كلها وغابات النخيل المحيطة بها فى مشهد رائع ... هذا المعبد كان مخصصاً لعبادة آمون وفيه قدس الأقداس ... وهى القاعة التى تم فيها تتويج الإسكندر ابناً لآمون ... وهذا المعبد مع معبد آمون يشكلان معاً مجمع كبير حيث وجد العلماء طريقاً واصلاً بين المعبدين وبين معبد ثالث يقع فى منتصف الطريق بينهما ... والمنطقة كلها تدعى "أجورمى" ومعروفة لدى السيويو بهذا الاسم

كنا الوحيدين تقريباً فى المعبد باستثناء عائلة مصرية أعجبتنى جداً ... فالأب رجل كبير فى العقد السادس ... جاء مع ابنه الشاب وزوجته التى تقاربه فى العمر وتحمل أطناناً من وزنها الزائد ... ومع ذلك فهم يتسلقون الصخور والدرجات مع مشقتها وثقلهم كأنهم فى العشرينات من العمر ... كانوا يتبرعون بشرح المكان لنا باعتبار ان الرجل يزور المكان للمرة الثانية ... من الغريب ان تجد أسرة مصرية كاملة تهتم بالذهاب إلى مثل هذه الأماكن ... ومن الأغرب بالتأكيد أن تكون أسرة من الجيل السابق!!

مع انتهاء جولتنا فى منطقة أجورمى اتخذنا طريقاً مختلفاً للعودة إلى الواحة حيث اننى علمت من عامل الكافيتريا عند عين كليوباترا أن هناك طريقاً آخر ممهد وأكثرسهولة يبدأ من أغورمى وينتهى إلى منتصف الواحة ... كان النهار قد انتصف وحان وقت الطعام ... انحرفنا فى طريق ترابى جانبى يمر بين ترعة ضيقة وأحد الحقول ... تركنا الدراجات عند طرف الحقل وتوغلنا على الأقدام بين الأشجار والنخيل حتى وصلنا إلى بقعة بها العديد من القطع الخشبية المقطوعة من جذوع النخيل تظلها نخلة عالية تمتلىء بأسبطة البلح الأحمر بلونه القانى .... اتخذ كل منا قطعة وجلس عليها فكونا دائرة صغيرة فى وسطها وعلى بقية القطع الخشبية وضعنا علب الجبن والخبز وكيس الفاكهة ... وأخرج "ميكيل" علبة التونة وفتاحة صغيرة – نسينا ان نشترى علب التونة سهلة الفتح – ودخل فى معركة فردية لفتحها استغرقت حوالى ربع الساعة

لاحظنا تجمع الأطفال الصغار حولنا ... بنات أولاً ثم لحقهم أولاد ... أعمارهم تتراوح بين 6 الى 10 سنوات تقريباً ... بملابس البنات الملونة الزاهية و جلاليب الأولاد التى كانت بيضاء يوماً ما قبل ان يلوثها الطين والتراب مع حركتهم النشطة التى لا تكل ... وقفوا بعيداً عنا ... حافظوا دائماً على مسافة لا تقل عن 100 متر بينهم وبيننا وان ظلوا يتابعونا فى شغف .... نادهم "ميكيل" فتجرأوا قليلاً وسألوه من بعيد "واتس يور نايم؟" ... بلكنة غريبة هى تحوير من اللكنة المصرية اياها التى تجعل الذاء زاى ... وان خرجت جميع الحوف والتركيبات اللغوية سليمة تماماً كما هو متوقع من ابناء قوم يعتمدون فى اقتصادهم اعتمادا أساسيا على السياحة فتجدهم يتعلمون اللغات عن طريق السمع فقط منذ نعومة أظافرهم

حاول "ميكيل" ان "يعزم" عليهم ببعض قطع البسكوت فرفضوا رفضاً باتاً وسمعت كبرى البنات تنهر الصغار بكلمات لم أميز منها سوى كلمة "صدقة" ... هم لا يأخذون الطعام أبداً من الغرباء ويعتبرونها صدقة يترفعون عنها بإباء أصحاب الأرض ... عرفت بعد ذلك أن الأطفال هناك يحبون الأقلام ويقبلونها كهدايا من الغرباء ... عادة تعودوا عليها من أوائل الزائرين الأجانب الذين ارادوا ان يعطوا الأطفال شيئا مفيداً ... عرفت وقتها لم كان هؤلاء الأطفال الذين لا يتعدون السادسة من عمرهم والذين وقفت أمام منزلهم للراحة فى طريقنا إلى جبل الموتى كانوا يسألوننى بألحاح "بن .. بن؟" ... لم أفهم ما حاجة من فى مثل عمرهم الى قلم؟!

شيئاً فشيئاً تجرأت مجموعة الأطفال فتقموا منا وأخذوا يتبادلون معنا الحديث بالانجليزية ... عرفونا بأسمائهم وسألونا عن جنسياتنا ومن أين آتينا ... سألنا الأولاد ان كانوا يستطيعون تسلق النخل وجمع البلح فأجابوا بالايجاب ... وبدأ أحدهم فى تسلق جذع النخلة القريبة كقرد صغير حتى صار فى أعلاها فى ظرف دقائق معدودة ... ووقف بوزنه الخفيف وقدمه الصغيرة على أحد الأفرع الخضراء الممتدة من قلب النخلة ووضع طرف فانلته الحمراء فى فمه ليصنع منها جراباً آخذ يجمع فيه البلح الرطب ثم أمسك بين يديه بفرع آخر يتدلى على ارتفاع متوسط من الأرض فانزلق عليه حتى نهايته خاتماً بقفزة رشيقة لامس بها الأرض ... هرع الينا يصب البلح فى أحد أكياسنا ثم عاد مسرعاً ليجلس فى الطرف مع أصحابه كأن شيئاً لم يكن ... لم يسمح لنا حتى بشكره أو مشاركته الطعام ... انهينا غذائنا ولممنا ما بقى منه ثم اتخذنا طريقنا الى طرف الحقل حيث الدراجات وقد تحركت القبيلة الصغيرة من الأطفال لوداعنا ... انطلقنا وسط تحياتهم واشارات وداعهم من ورائنا ... ننحرف عن الطريق المجاور للترعة الى الطريق الرئيسى المؤدى الى وسط الواحة مرة آخرى

Wednesday, October 17, 2007

سيوة ... واحة صحراوية على أرض مصرية - الجزء الأول


الزمان: الحادية عشر مساء ليلة العيد فى الثانى عشر من أكتوبر
المكان: أتوبيس غرب الدلتا المتحرك من مجطة ألماظة
الهدف: محافظة مطروح ومنها إلى سيوة

كل الناس سافرت ليلة الخميس أو صباح الجمعة – باعتبار ان يوم الجمعة أجازة – أوستسافر غدا السبت بعد قضاء أول يوم العيد بالقاهرة ... أما أنا فمنعتنى ظروف عملى حتى وقت الافطار يوم الجمعة من بدأ الرحلة مبكرا
المسافة الى مطروح تستغرق حوالى 6 ساعات قضيتها ما بين الدردشة مع رفيقتى من العمل التى قررت ان تصاحبنى فى الرحلة بعد ان تخلف معظم من انتووا المشاركة بسبب ظروف العمل وبين محاولات فاشلة للنوم برغم النعاس الذى يملأ جفونى... قضيت آخر ساعتين من الرحلة أستمع الى أغانى هندية على هاتفى المحمول بينما أراقب الطريق المظلم اللا نهائى من موقعى فى الكرسى الأول ... سكون الليل وأنغام الموسيقى الهندية مزيج عجيب ساحر ... الموسيقى هى واحدة من لغتين يفهمها كل البشر باختلاف اللأجناس والثقافات ... لغة الموسيقى ولغة الاشارات
وصلنا مطروح مع بداية تكبيرات العيد ولسعة برد الفجر تتغلغل فى أوصالى فأشعر بانتعاشة تنفض احساس النعاس الذى لازمنى طوال الليل
دخلنا الى كافيتريا المحطة ... محطة الأتوبيسات الجديدة التى تقع خارج مطروح ... زمان حين اعتدنا القدوم اليها كل عام فى صغرى كانت المحطة فى وسط المدينة حيث السوق الرئيسى بشارع الأسكندرية ... سألت على الأتوبيس المتوجه إلى سيوة فقيل لى أنه يأتى فى السابعة ويتحرك فى السابعة والنصف ... أمامنا أكثر من ساعة اذن
طلبت كوب من الشاى فجاءنى الكوب الزجاجى الذى ترى فى قعره ختم المصنع اياه مع ملعقة السكر الألمنيوم ... آه من رفاهية المدينة القميئة ... مج الكافيه لاتيه من "كوستا" أو "سلنترو" فى "سيتى ستارز" يبدو كخيال علمى هنا
تكبيرات العيد تترد من الجامع القريب ومن التلفزيون عالى الصوت بالكافيتريا ... بدأ الناس يتوافدون على المحطة مع شروق الشمس ... هناك شاب أجنبى يجلس وحيداً على أحد مقاعد المحطة الحجرية وقدرت أن وجهته سيوة ايضاً
بحلول السابعة توجهت الى مكتب الحجز فوجدت تجمع صغير من الشاب الأجنبى ورجل مصرى ثم شاب وفتاة يتحدثان لغة ما قدرت انها أسبانية ثم شاب وفتاة مصريان يبدو انهما حديثا الزواج ... عرفت ان أتوبيس السابعة تم الغاؤه والحل الوحيد هو ايجار سيارة خاصة أو ميكروباص أو انتظار الأتوبيس التالى فى الواحدة ظهراً
مع وقفتنا هذه أتى الينا سائق تاكسى يعرض علينا آخذنا الى سيوة ب 250 جنيه للأربع أفراد ... طبعاً كان استغلال فرفضنا ... ثم آتى سائق آخر وعرض 170 جنيه ... وافقنا لكن السائق الأول سحبه على جنب وتحدث معه لبضع لحظات انصرف بعدها السائق الثانى فى حين ظل الأول يحوم حولنا منتظراً قرارنا ... وكان قرارنا ان ننزل الى وسط المدينة بمطروح علنا نجد "توصيلة" الى سيوة فإن لم يكن فعلى الأقل سنتجول فى المدينة بدلاً من الانتظار حتى الواحدة فى المحطة ... الزوجان المصريان والأجنبى قررا البقاء ومحاولة ايجاد وسيلة آخرى
أوقفنا تاكسى مع الشاب والفتاة اللذان عرفت انى اخطأت التعرف على لغتهما وانهما ايطاليان ... لم أخطأ كثيراً اذن فالتشابه بين الايطالية والاسبانية كبير ... ركبنا التاكسى مع السائق الثانى اياه فسألنا ان كنا مازلنا نريد الذهاب الى سيوة فاتفقنا على نفس السعر 170 مقسمة على 4 ... سألناه ان كان هناك سيارة أخرى لبقية الناس الذين تركناهم فى المحطة فاتصل بصديق له ليجهز سيارته ويقابلنا ... غير اننا كلمنا الفتاة المصرية فقالت ان الشاب الأجنبى رحل مع التاكسى الأول وانها هى وزوجها وجدا ميكروباس مع ناس آخرين ... انتهى الأمر اذن وانطلقنا إلى سيوة
رفيقا الرحلة "سيمونا" و"ميكيل" ايطاليان ... هو من "روما" وهى من "تورينو" ... هى تعيش بمحافظة "سوهاج" منذ عدة أشهر للعمل على رسالة ماجيستير تعدها عن البيئة – تقريباً ... وهو فى زيارة قصيرة لمصر
كنت أجلس فى المقعد الأمامى بجانب السائق ... أشاهد الرمال الصفراء ممتدة على جانبى الطريق ... فقط طريق أسفلتى يبدو كخط رمادى رفيع وسط مساحة شاسعة من الصفار ... من حين إلى آخر نرى بعض الجمال تسير هائمة بلا صاحب فى وسط الصحراء ... قال لى "محمد" السائق انها تنطلق فى رحلات بالأسابيع وربما الشهور ... ربما تصل فى سيرها الى السودان ثم تعود إلى أصحابها مرة آخرى ... تعرف الطريق جيداً فلا تحتاج إلى طريق أسفلتى أو سائق أو دليل مثلنا ... أنا اتوه حتى فى المعادى برغم زياراتى المتكررة لها!!
المسافة من مطروح إلى سيوة تستغرق ما بين ثلاثة ساعات ونصف إلى أربع ...بعد انقضاء نصف المسافة تقريباً توقفنا قليلاً فى الطريق عند استراحة بدائية ... بها حمام أخبرنى خارجه عن داخله فامتنعت عنه ... ومسجد صغير يقف وحيداً على بعد أمتار قليلة بجانب مبنى الاستراحة ... قال لنا "محمد" أن أمامنا نصف ساعة ينام فيهم قليلاً ثم نستكمل المشوار ... نزلنا نتجول قليلاً فى المكان الخالى نحرك عضلات أرجلنا المتيبسة من طول الجلوس ... تناولنا بعض السندويتشات التى كنت قد قمت بتحضيرها فى القاهرة من أجل الرحلة وعزمت بالطبع على السائق والزوجين أخرج "ميكيل" ثمرة "قشطة" كبيرة وسكينة ... تأملت الثمرة الغريبة عنى ... تبدو مثل ثمرة مانجو طلع لها حبوب فى وشها ... أعطانيها لأقطعها فشققتها الى نصفين ثم شققت كل نصف الى شقين وآخذنا كل واحد قطعة ... قام "ميكيل" بجمع البذور البنية الكبيرة مننا ووضعها فى جيبه ... غالباً لزراعتها ... عرفت بعدها أنه درس الزراعة بايطاليا ... لاحقا قال انه دكتور زراعة ... لكنى غير متأكدة من هذه المعلومة لأنه كان دائم الهزار فلا تعرف له جد من هزل
لم يتمكن "محمد" من النوم بسبب كثرة الذباب ... ذباب عرفته جيداً فى مطروح ... لنا عشرة طويلة مؤسفة معاً حين كنا نقضى 10 أيام كل صيف فى معسكر بمطروح ... كنا نرش علبة بيرسول كل بضع ساعات ... لكن لا شىء يوثر فى هذا الذباب المفترس ... حتى كنا نتمنى لو نرش "أنفسنا" بالبيرسول حتى لا يلتصق باجسامنا هكذا ... الذباب فى القاهرة لو قمت ب"هشه" يطير بعيداً على الفور ... أما هذا فكلا البتة ... يلتصق بك فى حضن مميت ... قد تلمسه حتى بيدك ولا يتحرك ...ويبدو ان "محمد" قد راق للذباب فانقض عليه حيث كان قد فرد كرسيه ونام داخل السيارة مغطياُ وجهه بفوطة صفراء ... شاهدته يقوم كل بضع دقائق فيهش الذباب عنه بالفوطة فى غل حتى فقد الأمل تماماً بعد ربع ساعة ونادانا للتحرك
الآن أمسك فى يدى رواية "واحة الغروب" لبهاء طاهر ... كنت قد سمعت عنها قبل السفر بفترة فقمت بشراءها قبل سفرى بيومين ... وجدتها فرصة لطيفة ان أقرأ روايه تدور أحداثها فى سيوة وأنا فى نفس موقع الأحداث ... بالطبع الأحداث تدور قبل قرنين من الزمان أيام الاحتلال الانجليزى ... بالصدفة العجيبة أنه على بعد حوالى 150 كيلو من الواحة كنت أنا فى هذه الصفحة من الروايه التى تقرأ الآتى: "تشق القافلة طريقها نحو الغرب فى الصحراء فتقترب من الواحة يوماً بعد يوم. أشتاق حقاً إلى الوصول إليها. كل شىء فيها كالأساطير. المكان والناس والتاريخ والجغرافيا. هى كما قرأت جزء قديم من البحر ومازالت هناك حتى الآن فى رمالها وتلالها أصداف البحر وقواقعه. سكانها ينتمون للغرب لا للشرق, إلى قبيلة زناتة من قبائل البربر فى المغرب ويتكلمون لهجة من لغة البربر. لكنها فى الزمن القديم كانت جزءاً من مصر الفراعنة ومركزاً لعبادة إلههم الأكبر آمون. وهناك أسطورة الأربعين شخصاً الذين هجروا قرية أغورمى المليئة بآثار القدامى ليبنوا فى الغرب منها وسط الصحراء الفسيحة مدينتهم الحالية ويحيطوها بالأسوار" ... وكما قامت "كاثرين" بطلة الروايه بآداء الواجب كما يقولون وقرأت عن سيوة قبل زيارتها ... قمت كعادتى قبل أى سفر باستطلاع بعض المعلومات عن الواحة عن طريق الانترنت وكتاب "توريست جايد" عندى ... انظر إلى الصحراء الشاسعة الممتدة بلا نهاية على مرمى البصر وأتذكر كل أفلام الصحراء التى شاهدتها من أول "عمر المختار" و"لورنس العرب" وحتى "المومياء" و"السهم الذهبى" وكل الروايات من أول "كنوز الملك سليمان" وحتى رواية "الكيميائى" لباولو كويلو ... أتسائل كيف كانت القوافل تقطع كل هذه المسافات الشاسعة سيراً على الأقدام أو على ظهور الجمال؟ ... كيف تعرف طريقها وسط بحر متلاطم من الرمال الناعمة والتلال والكثبان؟
قطع أفكارى صوت صفعات متتالية من السائق على رجله اليسرى فى حركة متوترة ... فكرت أنه يساعد نفسه على التنبه وعدم النوم ... تأكدت حين تكرر الصفعات والخبطات على رجله وعلى عجلة القيادة أمامه ... سألته سؤال عابر عن سيوة وان كان قد زارها من قبل ... فانطلق كمن كان ينتظر أى كلمة لبدأ الحديث ... تعلمت من السفر كثيراً مع أبى فى صغرى ان الجالس بجوار السائق عليه مسؤلية متابعته وتسليته بالحديث حتى لا يغفو مع رتابة الطريق والسكون ... تبادلنا الحديث حول موضوعات كثيرة ... عرفت منه أنه يحمل ليسانس آداب قسم اجتماع ويعمل بالشركة المصرية للاتصالات ولكنه اشترى التاكسى لزيادة دخله القليل ... تكلمنا عن حقول الألغام فى العلمين وكيف انه خلال الحرب العالمية تقدم الجيش الايطالى داخل الصحراء الغربية عن طريق ليبيا وتقم الجيش الألمانى قادماً من الشمال عن طريق البحر المتوسط ليتخذا معسكراتهم حول منطقة العلمين وحتى مطروح وبعض الأجزاء قرب سيوة ... وقام كل فريق بزرع الألغام أمامه حتى يعوق تقدم الفريق الآخر فكانت النتيجة هى ما ندفع نحن ثمنه الآن حيث ان جزء كبير من هذه الصحراء معطل بدون أى خطط للتطوير أو العمران أو حتى مد الطرق بسبب حقول الألغام هذه
امتد الحديث حتى وصلنا الى مشارف سيوة
كانت الساعة قد بلغت الثانية عشر ظهراً تقريباً ... كان أول ما رأيت هو بعض البيوت الطوبية والنخيل المترامى بينها ... ثم ظهر فجأة على يسارنا جبل متوسط الارتفاع عرفه لنا "محمد" ب"جبل الموتى" ... كنت قد قرأت عنه أنه سمى كذلك لأنه كان يستخدم لدفن الموتى منذ زمن الفراعنة ... حتى ان بعض مقابره تحتوى على نقوش فرعونية كالتى رأيتها فى مقابر وادى الملوك فى الأقصر
كنت قد أخذت رقم هاتف أحد المرشدين "تور جايد" من زميل لى بالعمل كان قد قام بنفس الرحلة فى العام الماضى مع نفس المرشد. كلمت "سليمان" المرشد هذا من القاهرة وأخبرته بقدومنا وبرغبتنا فى القيام برحلة سفارى حتى يقوم بالترتيبات ... الا اننا فى الطريق كانت "سيمونا" على اتصال بصديقة لها ايطالية تدعى "لورا" وقالت انها سترسل زوجها وهو مرشد سياحى سيوى لاستقبالنا ... فأرجئت الاتصال ب"سليمان" حتى نستقر فى أحد الفنادق على الأقل
بالفعل وصلنا الى ساحة السوق وهو يعتبر مركزالمدينة فوجدنا "سيد" المرشد فى استقبالنا ... سألناه عن برنامج اليوم والأسعار فخيرنا بين القيام برحلة السفارى اليوم أو مشاهدة المزارات السياحية الداخلية ثم القيام بالسفارى فى الغد ولكنه قال انه يفضل ان نذهب اليوم لأن غداً ثانى أيام العيد وهو يتوقع العديد من الزائرين وقد لا يجد لنا مكان فى السيارات ... وافقنا على القيام بالسفارى واتفقنا على السعر وهو 500 جنيه للسيارة ... أى 125 جنيه للفرد زائد خمسة جنيهات من أجل تصريح الرحلة لنا المصريين وأربعون جنيهاً للأجانب ... فالقانون هنا ان يسلم المسافرين بطاقاتهم فى الأمن من أجل استخراج تصريح بالخروج إلى الصحراء ليوم واحد حيث يخافون من التسللات الى ليبيا التى تقع حدودها على بعد 30 كيلو فقط من سيوة
آخذنا "سيد" فى سيارته الجيب الى فندق يدعى "سفارى بارادايس" من أجل دخول الحمام والاغتسال ... غريبة هى هذه البلدة ... صدمت للوهلة الأولى من البيوت وال"مدقات" – الطرق الغير ممهدة بين البيوت – التى تجعلها بلدة فى الأرياف وتسألت بقلق بينى وبين نفسى كيف سأتحمل قضاء ليلة واحدة هنا ... لقد آتيت للاستمتاع وما المتعة فى هذه الأرياف؟ أقطعت 900 كم من أجل بلدة لا تفرق كثيراً عن بلدتى فى المنوفية التى تبعد ساعة ونصف فقط من القاهرة؟ ... كتمت قلقى وتأففى وتصبرت بجمال الفندق الذى كنا فيه ... كنا بقاعة استراحة مبلطة بسيراميك جديد لامع ومفروشة على الطرتز العربى حيث تنتشر قطع الكليم الأحمر المزركش تغطى الأرض وتزين بعض الحوائط هذا الى جانب الديكورات المستوحاة من البيئة المحلية حتى أن جزء منها كان "نخلة" حقيقية تنمو بطرف القاعة وتخترق السقف
بعد 10 دقائق ركبنا السيارة مرة أخرى وتوجهنا إلى بيت عائلة "سيد" حيث سنتناول وجبة الغذاء فى لفتة لا يحصل عليها الكثيرين حيث نتناول الغذاء المحلى فى بيت سيوى أصلى ... قابلنا على مدخل الساحة الأمامية للمنزل "لورا" زوجة "سيد" ... فتاة ايطالية جميلة فى أواخر العشرينات أو لعلها أوائل الثلاثينات ... تعجبنا كلنا من المزيج العجيب بينها وبين زوجها السيوى بجلابيته البيضاء والعقال الأحمر على رأسه – يسمونه "حمودى" ويقوم السيويون بربطه بطريقة معينة لتصير مثل العمامة الصعيدية على الرأس ولكن يتدلى منها طرف طويل خلف الرأس
وصل معنا فى نفس الوقت تقريباً مجموعة أخرى من السياح تتكون من 6 يونانيين – جريج – ومعهم سائق مصرى كبير السن يدعى "محمد" ايضاً ... دخلنا ساحة المنزل ... أرض مفروشة بالكليم – خلعنا جميعاً أحذيتنا بالخارج – وهناك وسائد للجلوس وآخرى للظهر مرصوصة فى مربع كامل بمحاذاة جدران الحجرة كلها ... جلسنا نحن الأربعة وأمامنا جلست المجموعة اليونانية وبيينا طاولات خشبية متلاصقة لتكون مائدة واحدة بارتفاع لا يتعدى 30 سم عن الأرض مثل "الطبلية" ... تعرفنا سريعاً وتبادلنا الأسئلة المعتادة عن مدة الاقامة من مصر ومكان المعيشة ... هم كلهم يعملون فى المدرسة اليونانية بمصر الجديدة ويسكنون هناك ... اساميهم صعبة ... يونانية كما يجب ان تكون ... وجوههم كأنها خرجت من فيلم "المولد" لعادل أمام ... "خريستوس" بشعره الأسود الطويل المعقوص الى الخلف وملامحه القريبة من المصريين يتجدث العربية الفصحى بطلاقة ولكن انجليزيته ضعيفة مقارنة برفيقتهم "خاراو" التى كانت أحسنهم فى الانجليزية ... تشارك "خريستو" فى ضعف الانجليزية زوجته "جوى" ويشاركه فى اللغة العربية الجيدة "ستاماتوس" ... وهذا الأخير لقى نصيباً من "التريقة" على اسمه حين حاولت تذكره ففشلت ثم قلت انى سأكتفى بمناداته "ستاما" ... فانطلقوا جميعا ينادونه "ستاماتوس" "توماتوس" – طماطم – "بوتاتوس" – بطاطس ... زوجته هى ألطفهم معشراُ وتدعى "فولا" ... بقى من المجموعة إمرأة تدعى "تيريزا" لم يحدث ان احتكيت بها اطلاقا طوال الرحلة
جاء الطعام وقام "سيد" برص الأطباق أمامنا بمساعدة "لورا" التى جلست بجانبنا فى النهاية وشرع الجميع فى الأكل ... أرز أبيض مختلف قليلا عما نعده نحن فى القاهرة ... بامية لا بأس بطعمها اطلاقا رغم انها ليست طبقى المفضل ولكن يبدو ان الجوع يصنع المعجزات ... شكشوكة بالبيض واللحم والطماطم لم يسبق لى ان رأيتها فى حياتى ويبدو انها غلطة أمى التى لم يسبق ان اعدتها لنا من قبل ... عموما بدا الخليط مؤلماً لنظرى فأشفقت على معدتى من أكله فامتنعت عنه ... امتنعت ايضا عن الفراخ لعدم رغبتى فيها لا أكثر ... أما ألذ ما استطعمت كانت شوربة الخضار والعيش السيوى المخبوز بالمنزل
انتهينا من الطعام سريعاً ... ربما فى أقل من ثلث الساعة ... وكان "سيد" قد بدأ فى اعداد الشاى على سخان صغير بطرف الحجرة ... دارت أكواب الشاى الصغيرة علينا ... الدور الأول كان الشاى الثقيل ... شاى "علقم" كما يقولون ... أنا دائمة الشجار مع أمى لأنها تعد الشاى ثقيلاً وأنا لا أشرب سوى شاى خفيف جداً لأن المنبهات توترنى ... ولكنى اعتذرت لأمى فى سرى وأنا أمد يدى بالكوب الفارغ فى ذلك المجلس فى سيوة ... فما شربته كان المرارة فى حد ذاتها ... والكوب صغير جداً يشرب على مرة أو مرتين فقط لا أكثر ... مثل "شوت" الويسكى ... ومش بعيد يكون له نفس التأثير والله! ... دار بعد ذلك دور الشاى الخفيف وهو لا خفيف ولا حاجة بل هو فى ثقل شاى أمى لكن بعد ال"شوت" الأولانى اياه لو شربت "زفت" فى كوب لما شعرت بشىء ... لكنه بالنعناع الجبلى ذو الرائحة النفاذة الجميلة والطعم القوى ... انضممت فى هذه الاثناء فى حوار مع "لورا" ... عرفت انها تعيش فى مصر منذ سنة بعضها فى القاهرة وبعضها فى سيوة وقبلها عاشت فى لبنان ... كانت تدير مشروع لتطوير سيوة اسمه "مشروع شالى" باشراف احدى المنظمات الايطالية من اجل الحفاظ على الثقافة السيوية وتنمية البيئة فى المنطقة والتسويق السياحى لها ولمصنوعاتها المحلية ... هى من الشخصيات التى تتحدث اليك فتعطيك كل اهتمامها لكنك تشعر فى نفس الوقت ان ذهنها يفكر فى مليون شىء بشكل متوازى دون ان تحول نظرها عنك أو تشرد بحديثها عن موضوعكما ... بعدها انضممت فى حوار مع "خاراو" و"فولا" عن كيفية قيامنا بالرحلة وعملى وعملهم والحياة فى مصر إلخ حتى سمعنا "سيد" يدعونا لبدأ التحرك
ركبنا السيارة مرة أخرى ولكن هذه المرة مع سائق جديد يدعى "محمد" ... خرجنا على أول الطريق وانتظرنا حتى انضمت الينا بقية السيارات الخارجة إلى السفارى فكان مجموها أربع سيارات محملة بمعدات التخييم والمتاع. امتدت فترة الانتظار الى قرب النصف ساعة قضينا فى المزاح والتهكم على لكنة "ميكيل" الايطالية الثقيلة المثيرة للضحك خصوصاً من لثغته المحببة التى تقلب السين ثاء وانجليزيته الكسيحة ... كثيراً ما كانت "سيمونا" تقوم بالترجمة ... انجليزيتها ضعيفة ايضا لكن مفهومة الى حد كبير ... أما "ميكيل" فكان له "لازمة" لا تفارقه وهى قول "فرى فرى" – أى جداً جداً - قبل أى وصف ... خصوصا جملة "فرى فرى فانتاستيك" التى تصير مع لثغته "فرى فرى فانتاثتيك" والتى يصف بها كل شىء وأى شىء تقريبا ... اتخذناها مادة للدعابة طوال مدة الرحلة ... أزالت هذه النصف ساعة المليئة بالضحكات أميالاً من الحواجز بيننا فصرنا نتعامل كأننا نعرف بعضنا منذ زمن حتى ان بقية المجموعة ومن قابلونا بعدها كانوا يحسبونا أصدقاء فعلاً وليس مجرد ناس تقابلوا منذ بضع ساعات فى مطروح. من أجل هذا أنا أحب الرحلات ... التعرف على ناس من جنسيات مختلفة وثقافات مختلفة متعة ... وأفضلها أكثر لو كنت وحدى بلا أصدقاء لأن هذا يمنحنى فرصة الاختلاط بالآخرين واقامة صدقات بسهولة
بدأت رحلة السفارى ... لم يمضى سوى بضع دقائق على خروجنا من الطريق الممهد القادم من داخل الواحة حتى وجدنا أنفسنا فى قلب الصحراء المترامية الأطراف ... انطلقت السيارات بطريقة شيه متوازية كصف جيش يتقدم لمحاربة المجهول ... تتقاطع آثار الاطارات وتفترق مع قيام السائقين بالتسابق بحرفية ومهارة لاعطاء الراكبين احساس المغامرة ... توقفنا بعد حوالى ربع ساعة لالتقاط الصور ... صور لنا فى قلب الصحراء ولا شىء يبدو خلفنا أو حولنا سوى الكثبان الرملية الناعمة
استكملنا الرحلة نرتقى كثبانا ونهبط وديانا فى سكون تام ... كأننا وقعنا تحت سحر الصحراء الغامض فعجزنا عن الكلام ... نتأمل فقط التشكيلات الرائعة للكثبان حولنا كأننا أقزام وقعنا فى منطقة رملية تشكلت فيها الكثيان بيد طفل عابث يلعب برمال الشاطىء ... أتذكر مقولة أحد سائقى الجمال فى رواية "الكيميائى" ... "لقد عبرت الصحراء العديد من المرات ولكن الصراء شديدة الاتساع والأفق شديد البعد حتى انهما ليجعلا الانسان يشعر بالصغر الشديد وبأنه يجب عليه الصمت" ... لا يقطع صمتنا سوى صيحات الاثارة حين نرتقى كثيب عالى وتقف السيارة معلقة على قمته فى حين يعالج السائق ناقل الغرز – فيتيس الغرز – المزودة به السيارة فى مهارة وتحكم حتى تبدأ السيارة فى الهبوط على المنحدر الشديد من الناحية الآخرة من الكثيب بسرعة شديدة ... أحياناً بزاوية خطيرة شبه عمودية فتنطلق منا صيحات الاثارة كمن يركب اللعبة الحلزونية – رولر كوستر – بالملاهى
عرفت من الكلام مع السائقين انه توجد قواعد مخصوصة للقيادة فى الصحراء ... فعند هبوط الكثبان يجب ان تهبط كل سيارة بمفردها أولاً وينتظر الباقون حتى تبتعد عن الطريق قبل ان تهبط الأخرى وهكذا حتى لا تتصادم السيارات ... كما ان جميع السيارات تسير فى صف خلف بعضها لأن السير فى الصحراء لا يعتمد على اشارات ضوئية للاتجاهات ولا ينظر السائقون فى المرآة لان الصحراء تمتد فى جميع الاتجاهات فمن السهل ان تتصادم السيارات اذا كانت تسير بصورة عشوائية
وصلنا الى عين من المياه الجوفية الساخنة تحيطها بعض الأشجار والنخيل ... بقعة من الحياة فى وسط الجفاف والتصحر ... سبحان الله! ... كان هناك عدد من السيارات التى وصلت قبلنا ... جلس الجميع حول العين بينما خلعنا الأحذية والجوارب وجلسنا على حافة الحوض الحجرى المحيط بالعين وأنزلنا أرجلنا الى المياه الساخنة فى حين نراقب الفقاقيع الهوائية التى تحدد مكان خروج المياه من قلب الأرض فى وسط العين ... المياه الدافئة تبعث شعور جميل بالاسترخاء يسرى فى جسدى من قدمى الى رأسى فيصيبنى بقشعريرة خفيفة ... اكتشفت ان تحت رجلى مباشرة درجة حجرية فوقفت عليها فوصل الماء الى ما تحت ركبتى مباشرة ... لكن الأرض كانت ملساء بسبب طبقة من الأعشاب والطحالب كانت تغطيها ... فما ان تحركت حتى انزلقت الى درجة آخرى فوصل الماء الى وسطى ... وثبت مباشرة الى الدرجة الأولى مخرجة هاتفى المحمول من جيب الجاكت الذى أرتديه ... حمدت الله ان الجراب القماشى الذى أضعه فيه قد أمتص كثير من المياه فحمى المحمول من تسرب المياه الى داخله ومسحته سريعاً من آثار المياه لكن كان الآوان قد فات من أجل ساعتى التى اكتشفت بعدها بفترة انها توقفت عن العمل ... دعنا من الساعة لم تكن قيمة على كل حال لكن مشكلتى الآن هى ملابسى المبلله والتى أصبحت باردة بعد فترة وجيزة مهددة باصابتى ببرد أكيد فى معدتى وربما أسوأ ... خرجت من العين ووقفت فى الشمس أجفف ملابسى ... ثم جلست على مقعد مقابل للعين ... كان بجوارى سيدة وزوجها عرفت انهم أمريكيين من أوهايو وبجوارى من الناحية الأخرى فتاة مصرية ووالدتها من الاسكندرية ... كانوا فى طريقهم الى التخييم فى الصحراء مثلنا لكننا لم نقابلهما بعدها ... أعتقد انهم خيمموا فى موقع آخر
ركبنا السيارة منطلقين الى موقع آخر ... هذه المرة هى بحيرة كبيرة نسبياً فى وسط الصحراء ايضاً تدعى "بير واحد" ... محاطة بسور أخضر من الأعشاب الطويلة ولها مدخل واحد يجلس الناس على جانبيه بينما ينزل بعضهم الى المياه ... معظم المجموعة جلست على الرمال تستمتع بالشمس ومنظر البحيرة فى حين نزل اثنان من اليونانيين و"سيمونا" و"ميكيل" الى البحيرة ... مجرد ربع ساعة نادانا بعدها السائقون من أجل استكمال الرحلة ... كانت ملابسى الآن على وشك الجفاف ... وبوصولنا الى منطقة الحفريات وقضائنا ربع ساعة آخرى هناك كانت قد جفت تماماً ... منطقة الحقريات هى رقعة واسعة من الصخور كأنما نبتت من العدم وسط الرمال ... فيها بقايا صخور وأصداف تدل على وجود البحر الذى جف هنا من ملايين السنين ... قمنا بجمع بعض قطع الصخور بأشكالها العجيبة كتذكارات ثم انطلقنا
آخر محطة كانت لمشاهدة الغروب ... توقفت السيارات الثلاث فوق كثيب عالى ونزلنا جميعاً نلتقط الصور لمشهد الغروب الرائع والشمس تتوارى خلف الكثبان البعيدة والشفق يتلون بتدريجات خرافية ما بين اللونين الأصفر والأحمر ... قام "ميكيل" بهبوط الكثيب فيما يشبه التزحلق من فرط نعومة الرمال وتبعته "سيمونا" ... التقط لهما الصور فنادوا على لأهبط اليهما ... تركت الكاميرا وجلست على قمة الكثيب وانزلقت ... هناك من يقومون بالتزحلق على الرمال فعلاً باستخدام معدات تزحلق تشبه تماماً تلك المستخدمة للتزحلق على الجليد ولكننا نسينا ان نطلبها من المرشدين ... أعتقد ايضا لتها تتطلب لياقة عالية غير متوفرة للأمة لله وأخشى أن يدق عنقى فى محاولة خرقاء!
جاء "محمد" السائق ينادى علينا فبدأنا الصعود ... لو كنت أعرف ان الأمر سيكون بهذه الصعوبة لما تهورت ونزلت من الأساس ... الرمال شديدة النعومة بحيث تنهال تحت قدمى كلما انتقلت خطوة فتهبط بى خطوتين الى أسفل ... خلعت حذائى الذى امتلأ بالرمال وصار ثقلاً يسحبنى إلى أسفل ... حتى الجوربين صارا يمتلأن بالرمال ايضاً ... نجحت فى بلوغ القمة بشق الأنفس ووقفت أحاول الحصول على هواء بعد هذا المجهود ... أول شىء أفعله اذا خرجت من هنا حية ورجعت الى القاهرة هو الاشتراك فى الجيم فوراً ... لياقتى أسوأ من عجوز فى السبعين يدخن بشراهة منذ العاشرة من عمره!
آخيراً وصلنا مكان المخيم ... مجرد مكان عادى اختاره المرشدين بحيث يحمى ظهرنا من الرياح كثيب عالى ... وضع السائقون سيارتان بشكل حرف ل وفرشوا بينهما الكليم ووضعوا الوسائد وأنزلوا البطاطين والمرتبات ... ذهبنا نحن لمساعدة "ميكيل" و"سيمونا" على نصب خيمتهما الصغيرة "الهايك" ... كانت سهلة التركيب فاصبحت جاهزة فى ظرف 10 دقائق ... كنت فى حاجة شديدة لتغيير ملابسى فاتيت بملابس جافة من حقيبتى بالسيارة واستأذنتهما فى استخدام الخيمة ... أغلقت "السوستة" وغيرت ملابسى فى وضعية الجلوس وهى الوضعية الوحيدة الممكنة فى مثل هذه الخيم لذلك استغرقت وقتاً طويلاً خرجت بعده لأجد الليل قد أرخى سدوله على المكان وفى الأفق يبدو هلال الأول من الشهلر الهجرى فى الأفق كأنما يستقر على أرض الصحراء ... كان المرشدين قد أوقدوا النار على بعد خطوات من الفرش والسيارات وجلسوا على مقربة يعدون الطعام حول سخان غاز صغير ... جلست بقية المجموعة يتسامرون حول النار فى حين انضم"ميكيل" إلى المرشدين يساعدهم فى عمل الطعام ... كان من هذه النوعية من الناس التى تسارع بمد يدها للمساعدة فوراً بدون تكليف ... انضممنا لهما وسرعان ما لحق بنا بعض اليونانيون فآخذ كل يشارك بشىء ... "ميكيل" يقشر الجزر ويضعه أمامى لأقطعه و"سيمونا" تقطع الكوسة وهكذا ... رن فى أذنى فجأة اسم "سليمان" سألت من هو فجاوبنى رجل فى العقد الرابع من عمره يجلس أمامى مباشرة أنه هو ... عرفته بنفسى فضحك للصدف التى جمعتنا فى النهاية ... شرحت له ما حدث وأنى وصلت فوجدت "سيد" فى انتظارنا ورتب لنا كل شىء دون أن اتدخل أنا واعتذرت له انى لم أكلمه فتفهم الموضوع ببساطة ولامنى انى لم أكلمه حين لم نجد مواصلات من مطروح ورحب بنا مرة آخرى وأخبرنى ان اكلمه فى أى وقت ان احتجت أى شىء ... أفتقد هذا النوع من المعاملات البسيطة الغير معقدة مع أهل المدن
انتهينا من تحضير الطعام فتركنا مهمة تسويته للمرشدين وانتقلنا للجلوس مع بقية المجموعة حول النار ... جاءت جلستى وسط الدائرة بجانب سيدة ايطالية رقيقة تدعى "كاتيا" ... قابلت جلستى بجانبها بابتسامة جميلة مرحبة فعرفتها بنفسى وانخرطنا فى الحديث فوراً ... تعيش فى القاهرة منذ عدة شهور وتعمل مدرسة للغة الايطالية بجامعة عين شمس ... تعيش فى المعادى ... آخذنا الحديث للمناطق السكنية فى القاهرة وأسعار العقارات المجنونة ثم انتقل الى السفر والمدن الأوروبية واللغات ... استغرق الحوار حوالى نصف ساعة انتقلت بعده الى الناحية المقابلة من الدائرة لأن دخان النار كان قد بدأ يدمر صدرى ...كان الطعام قد جهز على كل حال فقام الجميع كل يأخذ طبقاً فارغاً ويذهب ليملأه من حلة الأرز وحلة التورللى وحلة السلاطة الموضوعين على مائدة خشبية صغيرة خلفنا ... وكان وفد جديد قد انضم لنا ... سياراتان لمصريين ... رجل وابنته وآخر وولدبه الصغيريين الى جانب "لورا" زوجة "سيد" التى كانت قد تركتنا من بعد الغذاء ... آخذت طبقى وعدت الى مجلسى فكانت "لورا" بجوارى وبعدها "ميكيل" و"سيمونا" ... أكل الجميع فى صمت وسرعة ... الكل جوعان وطعم التورللى المطبوخ على نار الفحم أطعم من أى خضراوات أكلتها من قبل ... انتهى الطعام فجلست أتسامر قليلاً مع "لورا" يقاطعنا "ميكيل" بمرحه المعهود ولكنته التى تستفزنى للتهكم عليها فيقابلنى بالمزيد من التهكم ... ثم ان بدأ اليونانيون من حيث لا أعلم فى الغناء ... فى نفس واحد انطلقوا ينشدون أغنية ذات لحن رقيق حزين أجبرت الجميع على الصمت والشرود فى وهج النار ... انتهت الأغنية وشرحوا لنا انها أغنية تقليدية للأفراح ... اذا كانت هذه الأغنية الحزينة للأفراح فكيف يكون العزاء عندهم؟!! سبحان الله ... ثم انهم شرعوا فى غناء أغنية آخرى أكثر ايقاعاً وقام "خريستوس" يرقص وحده حول النار مع تصقيف الجالسين ... ثم انضمت له "خاراو" بعد لحظات ... خطواتهم المشابهة لرقصة "زوربا اليونانى" كما آداها أنتونى كوين فى الفيلم المشهور ... تبع هذا رقصة آخرى من "ستاماتوس" وزوجته ... أشاعت النغمات الناعمة والخطوات الراقصة حول النار جوا من المرح على المخيم ... فى هذه الأثناء كان "سيد" قد أعد الشاى اياه ودارت الأكواب كالعادة ... بعدها بفترة وجيزة دارت بيننا علبة من كحك العيد و "البيتيفور" جاء بها المصريين معهم من باب الاحتفال بالعيد برغم البعد التام عن جو العيد ومظاهره فى غياهب الصحراء هذه والطابع اليونانى الذى اكتسبته الليلة مع الأغانى والرقصات الأخيرة
هدأت المجموعة قليلاً فقمنا مع "سيمونا" و"ميكيل" نتمشى ... توغلنا قليلاً فى الصحراء بعيداً عن المخيم حتى نحصل على رؤية أفضل للنجوم ... كنا بالكاد نرى أحدنا الآخر ... نبدو كالأشباح فى هذه العتمة ... مشهد النجوم فى الصحراء شىء خرافى أعجز عن وصفه ... كنت أقرأ منذ صغرى هذا الوصف فى كتبى : "تتلألأ النجوم" ولم أكن أعرف لها معنى ... فأقصى ما استطيع رؤيته فى سماء القاهرة هو نقطة بيضاء بعيدة بالكاد ترى بالعين المجردة ... أما هنا فالنجوم تفرش السماء كالبذور المرشوشة وتتلألأ كالمصابيح فتومض وتخبو طوال الوقت ... كما تستطيع لو عندك الخبرة ان تستكشف تجمعات النجوم المشهورة ... رأينا مجموعة "بيجاسوس" وهى تبدو مجموعة من النجوم الصغيرة متكومة فى بقعة واحدة بحيث تبدو كباقة من الورود البيصاء مغلفة بورق شديد السواد

عدنا إلى المخيم وكان الجميع يستعدون للنوم ... الساعة ما بين العاشرة والحادية عشر ... ذهب "ميكيل" و"سيمونا" الى خيمتهما والمصريين كذلك ولم يبق سوانا مع اليونانيين ... "كاتيا" رحلت مع بقية المرشدين للمبيت فى الواحة وكانت قد ودعتنا بعد العشاء مباشرة ... آخذ كل منا مرتبة رفيعة وغطاء من الصوف الثقيل واتخذ كل فرد موقع من رقعة الكليم المربعة ... اتخذت موقع فى أقصى طرف الكليم قريباً من النساء وبعيداً عن الرجال ... عموماً أنا أنام بالحجاب طبعاً والغطاء الثقيل يحجب الجسد كله حتى الوجه – لاتقاء البرد- فلا تستطيع حتى ان تتبين من النائم ... قضيت فترة أتأمل غطاء النجوم فوقى وتأتينى أحاديث المرشدين مع الرجلين المصريين حول النار ... اليونانيون ايضا يتبادلون الحديث ورائى بطريقتهم الغجرية السريعة العالية فى الحديث فأود لو استطيع اسكاتهم لاتمتع بسكون الليل ... لا أعرف متى غفوت ومتى أفقت على صوت همس باليونانى يشق سكون الليل كمكبرات الصوت ... شعرت بالبرودة الشديدة تكاد تجمد أطرافى ... وكنت قد خلعت الجاكت قبل النوم وطبقته مع الشال لأصنع منهما وسادة لرأسى ... فقمت فارتديت الجاكت وذهبت الى السيارة لآتى ببعض ملابسى لأصنع منها وسادة آخرى ... كانت النار قد انطفأت وأرى بصعوبة شديدة ... ولكن مع مرورى بجانب من كانوا يتهامسون وجد يد تمتد لى بولاعة ... كان "خريستو" يقول لى ان آخذها تنير لى الطريق ... شكرته وتناولتها وأشعلتها حتى وصلت الى السيارة القريبة ... اخذت الملابس وعدت الى موقعى بعد ان اعدت ل"خريستو" الولاعة وشكرته ... حاولت النوم مرة آخرى ففشلت ... كان البرد ينهش عظمى وحاجتى الى الحمام تقتلنى ... فكرت ان أقوم فابتعد عن المخيم و "اذهب الى الخلاء" بمعنى الكلمة ... المكان مظلم تماما وبضع خطوات فى أى اتجاه كفيلة بحجبك عن الانظار تماما ... الا انى لم استطع ... أفضل الموت على ان أفعل ... قررت النوم فى السيارة اتقاءا للبرد ... آخذت الغطاء الثقيل وذهبت الى السيارة ... فتحتها بهدوء ونقلت الحقائب الى مؤخرة السيارة وتمددت على المقعد الخلفى متدثرة بالغطاء ... لم تكن وضعية مريحة نظرا لضيق المقعد لكن على الأقل المكان دافىء نسبياً
هكذا قضيت بقية الليلة ... أصحو على فترات متقطعة بسبب سوء وضعية النوم ... كما ان أى حركة فى الخارج أسمعها بوضوح ... لو تقلب أحدهم فى الخارج أو حتى تنفس بصوت عالى أسمعه بوضوح كطلقات الرصاص فى السكون المطبق ... مضى الليل بطيئاً مؤلماً حتى صحوت فجأة وكان لون السماء بدأ يتحول الى الزرقة ... فتحت الباب بهدوء حتى لا أوقظ النائمين وخرجت الى العراء ... ادركت ان الفجر يزحف بهدوء وكنت الوحيدة المستيقظة فى المخيم كله ... قررت أن أصعد الكثيب القريب لأشاهد الشروق ... أهل الصحراء يسمون الكثيب "غرد" لأن الرياح التى تمر فوقه وبين كثيب وآخر تصدر صفيراً فتبدوا كمن يغرد لحناً خاصاً ... ومعظم الناس تعطيه الاسم الانجليزى "ديون" ... آثار الأقدام تغطى القمة دالة عى من صعدوا اليها ليلاً ... أجلس على القمة أتأمل الأفق الممتد على يسار المخيم والذى بدأ يتلون بتدرجات من الأزرق الفاتح واللون البنفسجى ... الرمال شديدة البرودة من أثر الليل... من بعيد ... وعلى الضفة الآخرى من المعكسر ألمح الواحة بأنوارها تغفو فى سكون ... وتحتى من الناحية الأخرى يبدو المعسكر بعرباته الأربع وخيمه الثلاثة ورقعة الكليم والنائمون عليها ... وعلى بعد حوالى 50 متر من المخيم أرى بقعة حمراء ... "سليبنج باج" على وجه الدقة ... قدرت انها ل"سيد" و"لورا" حيث انهما الوحيدين المفقودين من المخيم ... ثم لا أعتقد أحد غبرهما يجرؤ على النوم فى الخلاء التام والعتمة الثقيلة هذه غيرهما ... أتابع من فوق استيقاظ "خريستو" وذهابه بعيداً عن المخيم مع زجاجة من الماء لغسل وجهه وأسنانه ... يتبعه فى ذلك "ستاماتوس" ... أدير بصرى الى الأفق الشرقى ... ألتقط الكثير من الصور لجميع مراحل الشروق وحتى بزوغ الشمس بلونها البرتقالى الدافىء من وراء الأفق ... أنزل بعدها إلى أرض المخيم لألتقط المزيد من الصور من زاوية مختلفة ... حتى أنى أصعد فوق السيارة الجيب لألتقط صورة للمعسكر النائم فى ظلها ... ويمر "ستاما" تحتى فيحيينى قائلاً "سباح الخير" بلكنته اليونانية المشهورة من أيام أفلام الخواجة "ينى" فأسأله ان يلتقط لى صورة وأنا أقف فوق السيارة
دقائق معدودة وكان الجميع قد استيقظ وجاء "سيد" يخرج طعام الافطار ويبدأ فى تحضير الشاى والنسكافيه فى حين يضع صينية كبيرة ملأى بالبيض للسلق على سخان الغاز الآخر ... على المائدة الخشبية التى تجمعنا حولها على الكراسى والصناديق والكليم توجد علب الجبن المثلثات والمربى والعيش السيوى الجميل ... "خريستو" قام بتشغيل أغانى يونانية من هاتفه المحمول وسرعان ما اندمجت المجموعة المهووسة بالغناء والرقص فى المشاركة بالغناء وقام "ستاما" هو وزوجنه يرقصان الرقصة المشهورة اياها بوضع الذراع مفرودة كل على كتف الآخر والقيام بخطوات بسيطة جانبية وأمامية مع خبط الأرض بأقدامهم ... جلسنا فى ظل هذا الجو ومع الاستمتاع بشمس الصباح الدافئة نتبادل الحديث ... طلبت من "خريستو" ان يرسل لى بعض الأغانى بالبلوتوث وأرسلت له فى المقابل أغانى لفيروز من هاتفى ايضاً ... قالت لى زوجته "جوى" ان فيروز مشهورة فى اليونان وأغانيها محبوبة جداً حتى ان عندهما أغنية مشهورة عنها هى شخصياً ... هذا الى جانب ان عندهم العديد من المغنيين اليونانيين يقومون بتحويل الأغانى العربية المشهورة الى اليونانية ويعيدوا غنائها بلغتهم ... اكتشفت ان "خريستو" نفسه مؤلف أغاتى بل أنه هو صاحب الأغنيتين اللتان أرسلهما لى ... انتهى الافطاروكانت بقية السيارات التى كانت قد تركتنا فى المساء ومنهم "سليمان" قد عادت لتأخذنا فتجمع الناس فى السيارات من أجل رحلة العودة الى الواحة